الدكتور ليث بدر يوسف
صحافي وأكاديمي عراقي
عضو مجلس الخبراء/ المسار الرقمي العراقي
قبل اكثر من سنة مضت بدأت تراودني فكرة تأليف كتاب جديد عن الاعلام الرقمي وبدأت بالقراءة وجمع كل ما له علاقة بالإعلام الرقمي (ومصطلح “الميديولوجيا تحديداً) لتأليف هذا الكتاب تحت عنوان (الميديولوجيا والاعلام الرقمي) وبعد الانتهاء من كتابة وتجهيز هذا المؤلف الجديد ارسلته الى دار النشر لطباعته على بركة الله، وانا انتظر على احر من الجمر مولودي العلمي الجديد لينضم لإخوته (مؤلفاتي السابقة) وليكون نافعا لطلبة العلم والباحثين في هذا المجال.
وبداية يجب ان نوضح هذا المصطلح (الميديولوجيا): في هذا المصطلح لفظان «الوسيط» و«العلم»، ويمكن ترجمته بــ «علم الوسائط» أو «الوسائطيّة».
فالميديولوجيا اختصاص يعنى بدراسة الوسائط الّتي بفضلها تحمل الرّسائل، وتنتقل الأفكار، وتنتشر العقائد، وتبثّ الأحاسيس.
فهي لا تعتني بالمضامين المنقولة وإنّما بالمرتكز المادّي الّذي يحمل تلك المضامين وبطرائق نقلها وكيفيات تأثيرها في العقول والنّفوس.
فلا وجود لفكر دون وسيط مادّيّ يكون الحامل الّذي يرتكز عليه، والآلة الّتي يجري بها نقله في الزّمان والمكان. فالأفكار والرّسائل تحتاج قبل أن تستقرّ في الرّأس إلى أن تحمل على الظّهر، وهي إن كانت تقطع أميالا وأميالا قبل أن يكون لها أنصار وأتباع احتاجت قبل ذلك إلى عدة تقنيّة من كتب وكتّاب، ووراقة وورّاقين، وأمكنة للتّدوين والتّوثيق والأرشفة والصّيانة والإيداع والتّخزين، وجماعات بشريّة تتنقّل بها أو تتّبع استراتيجيّات مخصوصة في الدّعاية والتّرويج.
ومن السذاجة أن نتصوّر الأفكار تنتقل كالعدوى بين الأفراد، لأنّ من شروط انتقالها من مكان إلى آخر هو أن تسمح الطّريق بحمل تلك الأفكار ونقلها. فكثير من الأشعار قد لفّها النّسيان لأنّها لم تتمكّن من مغادرة مجالها الأوّل، وكثير من العلم ضاع أكثره في الطّريق لأنّه استغرق عقودا طويلة حتّى يقطع بعض الأميال.
وتبيّن لنا هذه الأمثلة أنّ علاقة الرّسالة المحمولة بالوسيط الحامل ليست بسيطة، يكفي أن نعود إلى تعريفات الوسيط الأولى الّتي سبقت الميديولوجيا حتّى نقف على تعقّد هذه العلاقة.. والرّسالة، بوصفها مضمون البلاغ، ثانويّة، لأنّ الرّسالة الحقيقيّة هي الوسيط ذاته.
فالوسائط عند ماك لوان امتداد لحواسّ الإنسان ولجهازه العصبيّ، وهو يعتبر أنّ كلّ تغيير في وسيط من الوسائط، كتغيير الصّوت بالكتابة، يؤثّر بالضّرورة في أشكال التّرابط بين البشر وعلاقة الإنسان بحواسّه. فكلّ التّكنولوجيّات موظّفة لتنمية قوّة الإنسان ومضاعفة سرعته.
فإذا ما ضاعفنا في قوّة مجموعة من العناصر كمضاعفة حجم التّنقّلات والرّحلات بسبب تحسّن الطّريق، وتطوير وسائل النّقل بتوفير الورق وصناعة الكتاب.. فإنّ ذلك يفضي إلى تغيير جذريّ في شكل انتظامها، وفي أبنية المعرفة، حين يتغيّر سلوك الأفراد المعرفي (كالتّعويل على الذّاكرة الطّبيعيّة، أو الكتابيّة، أو الرّقميّة).
وساهمت الكثير من افكار الباحثين والمختصين في هذا المجال في بناء الحقل الميديولوجي.
بيد أنّ إضافة الميديولوجيا الحاسمة تمثّلت في إعادة هيكلة هذا الحقل، فأكسبته انسجاما ومعقوليّة وامتدادا لجهود السّابقين.
تجلّى ذلك بصفة خاصّة في أعمال ريجيس دوبريه الخصيبة الّتي أعيد فيها التّعريف بالوسيط على نحو جديد اقترن فيها الوسيط التّقنيّ بالمؤسّسات الّتي تستخدمه وتهيمن عليه.
ولأجل ذلك كان كلّ تغيّر ثقافيّ مكتسب غير قابل للوراثة والنّقل.
فالتّطوّر الثّقافيّ أسرع بكثير من التّطوّر البيولوجيّ، ولكنّه أكثر هشاشة لأنّه غير مسجّل في الجينات الوراثيّة للنّوع البشريّ.
فهو تطوّر غير فطريّ لا يثبت ولا يتكرّر ما دام يتأثّر بعوامل الوسط البيئيّ والحضاريّ والتّقنيّ…
ويعزى تطوّر الثّقافات البشريّة وتتاليها واختلافها إلى تغيّر الوسط التّقنيّ. فالإنسان نتاج أدواته، وبقاء ثقافة أو اندثارها إنّما هو رهين التّقنيات التي تمكّن من حفظها وتضمن انتشارها ودوامها.
وإذا كان التّطابق بين النّظام البيولوجيّ والنّظام الثّقافيّ منعدما فإنّ النّظام التّقنيّ غير متلازم في تطوّره مع النّظام الثّقافيّ.
ويترتّب عن ذلك أنّ مراحل النّموّ الإعلاميّ تمثّل في الوقت ذاته تاريخ وسائط الفكر والاتّصال ونقل الأفكار وتناقلها.
لا يوجد تطابق بين مراحل التّطوّر الفكريّ وتطوّر تقنيات الإعلام. وإنّما يوجد تطوّر عكسيّ.
فالتّقدّم التّقنيّ المتمثّل في تغيّر الأنظمة ومجال النّقل والانتقال يؤذن بنهاية نظام ثقافيّ برمّته.
فما يسمّى بعصور البدائية في التّاريخ الثّقافي العربيّ الإسلاميّ هي العصور التي ما فتئت تعوّل على خدمات المخطوط والكتابة والنّسخ اليدويّ، بينما كانت الثّقافة الأوروبيّة في ذلك الوقت تعيش عصر نهضتها الزّاهر بفضل اختراع المطبعة وتطوّر صناعة الورق.
فإذا اعتبرنا أنّ موضوع الدّراسة سواء أكان بالقراءة أم بالحفظ أم بالمذاكرة، هو الكتاب، وأنّ موضع الدّراسة هو المدرسة، صار اقتران الكتاب بالمدرسة (بما هي مؤسّسة)، هو ما يحدّد جوهر الوسيط ويعرّف به على نحو جامع مانع.
فإذا تخلّصنا من فكرة زائفة، ولكنّها شائعة، ترى في الوسائط على اختلاف أنواعها كالهاتف والرّاديو والتّلفاز والكتاب والكتابة والطّريق… مجرّد وسائل نقل تقنيّة، ثمّ نظرنا إليها في اقترانها بالمؤسّسات الّتي تتحكّم بواسطة تلك التّقنيات في طرائق النّقل وإدارته أمسى تصوّر الوسيط من منظور ميديولوجيّ ممكنا. فالكتاب بما هو شيء من الأشياء الثّقافيّة ما إن يقترن بالمدرسة حتّى ينقلب إلى وسيط متهيئ للاضطلاع بوظيفة النّقل.
فالانتقال من الدّائرة الكلاميّة (Logosphère ــ النّقل الشّفويّ) إلى الدّائرة الخطّيّة (Graphosphère ــ النّظام الطّباعيّ) فـ (الدّائرة المرئية ــ vidéosphère) فـ (الذّاكرة الأنالوجيّة analogiques ) فالدّائرة القصوى (l’hypersphère ــ الشّبكات الرّقميّة) لا يحدث عند دوبريه بالقطيعة، فلا وجود لقطائع بين الدّوائر الوسائطيّة، كما أنّه لا وجود لدائرة مستقلّة عن الدّوائر الوسائطيّة الأخرى، ولا وجود لدائرة خالصة الهويّة، لأنّ كلّ دائرة تحوي الدّائرة الّتي سبقتها وتعضدها وتقوّيها.
فالكتابة قد ضاعفت من إمكانات المشافهة، مثلما أنّ المطبعة قد ضاعفت من إمكانات النّسخ الكتابيّ لمّا استعيض عن المنسوخ بالمطبوع. وكذلك ضاعفت التّقنيات الرّقميّة من قدرات المطبوع على الانتشار في جميع أصقاع الأرض على نحو متزامن.
وهذا ما نسميه بالرقمنة.