أ.م.د. صفد الشمري
رئيس مجلس ادارة المسار الرقمي العراقي
في وقت صارت فيه صناعة المحتوى الرقمي مرتكز الحراك العالمي المتصف بالرقمية على المستويات جميعها، بعد ان اعتمد العالم نتاج قياس فاعلية تلك الصناعة إحدى مؤشرات نجاح ووصول كل المنتجات المادية والفكرية إلى الأطراف المستهدفة، مازالت “صناعة المحتوى الرقمي العراقي”، تعاني من سيادة العشوائية، التي وضعت مضامينها في مراتب تكاد لا تذكر في التصنيفات الدولية، التي تشترط توافر معايير رئيسة للجودة، غابت عن أذهان القائمين على المجال الرقمي المحلي، الأمر الذي يدعو إلى ضرورة تبني استراتيجية رصينة للنهوض بهذا المجال الناشط!
يشير مفهوم صناعة المحتوى الرقمي الى عملية بناء وترميز المضامين في الأوعية الرقمية، بشكل مفهوم وميّسر للمستخدمين، على وفق معايير وأسس وقواعد محددة، وبشرط إضافة عنصر المعرفة، وترتبط بحق الملكية، الذي يستوجب توافر مجموعة من المقومات، ويخضع إلى العديد من التفسيرات، بين النظم التشريعية التقليدية، وبين متطلبات البيئة الرقمية المعاصرة على المستويين المحلي والدولي.
ويتخذ المحتوى الرقمي العديد من الاشكال من بينها: (النص، الصورة، الفديو، الرسوم المتحركة، التطبيقات الرقمية)، وهو يستعمل لتحقيق مجموعة من الوظائف: (الاتصالات، الاخبار، التوظيف، التسلية، التجارة، البحث في الموضوعات، التعليم، التدريب.. وغير ذلك)، وهذا ما يتطلب النظر الى المحتوى الرقمي، على مستوى العالم، ضمن سياق البيئة والآليات الهادفة الى استحداثه وتخزينه وتقديمه وتسويقه، ولا يقتصر ذلك على البعد التكنولوجي فحسب، بل يتعداه ليشمل الابعاد القانونية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
“الرقمنة” المحلية
تقف صناعة المحتوى الرقمي في العراق في ترتيب متأخر للغاية على مستوى العالم، على الرغم من توافر متطلبات الجاهزية “التقنية”، وهذا ما يستوجب الوقوف على مدى دراية صنّاع المحتوى لدينا بمعايير جودة المحتوى الرقمي، وتحديد معوقات صناعة المحتوى المتصف بالجودة في البلاد، ومعرفة المستوى الفني الحقيقي لصنّاع المحتويات الرقمية انفسهم، وتقديم الوصف الدقيق لواقع البيئة الرقمية المحلية، إلى جانب معرفة الدور الحقيقي للمؤسسات العراقية المختصة في تنمية صناعة المحتوى الرقمي، من مدارس وجامعات ومؤسسات حكومية ومجتمعية!
لقد قابلت عملية صناعة المحتوى الرقمي مجموعة من التحديات التي كان ابرزها فيما يعرف بالفجوة الرقمية، ولا ترتبط تلك الفجوة بالجاهزية التقنية، من الأدوات والمتطلبات المادية، فالتقنية، من وجهة نظر المختصين، كانت وستظل منتجاً اجتماعياً، وقد جاءت المعلومات والاتصالات بمنزلة تأكيد حاسم لهذا الرأي، وبقدر ما يحتاج تضييق الفجوة الى توفير الوسائل الفنية، بقدر ما يحتاج الى نوع من الابتكار الاجتماعي او ابتكار ما بعد التقنية، إذ صارت التقنية الرقمية تنمو بشكل متزايد ومتشابك مع الحياة اليومية، من التعليم المدرسي والتربية الى الانخراط السياسي والادارة المالية والصحية، وهو ما يتطلب فهم الحاجة الى التحديات التي توفرها الاستخدامات الرقمية في المجتمعات.
ويتطلب تطوير عملية صناعة المحتوى الرقمي وضع استراتيجيات لإيجاد موازنة بين المحتوى والبنية التحتية، وبين جانبي العرض والطلب، وبين مقدمي خدمات الانترنت وبين صنّاع المحتوى، وانشاء مؤسسة عربية للمحتوى الرقمي تسعى الى رصد الحالة واجراءات الدراسات والتقدم بتوصيات الى الحكومات العربية، والعمل على تطوير محرك بحث عربي ودليل لمواقع الويب مبوب بحسب نشاط الاعمال ومعزز بخيار اضافة اللغتين الانكليزية والفرنسية.
إلى جانب الاستثمار في استحداث وترجمة المحتوى الرقمي بالاستعانة بأدوات الترجمة الاوتوماتية، وتنمية والمهارات الرقمية، ودعم مؤسسات البحوث والشراكة مع المعاهد والمراكز الخارجية المختصة وتشجيع المستخدمين من خلال المنح لاستحداث المشاريع، وإطلاق مبادرات وبرامج وطنية في هذا المضمار، إلى جانب التزام صناع المحتوى بعدد من المعايير الدولية لإضفاء الجودة على نتاجاتهم.
وتعتمد جودة المحتوى الرقمي على مجموعة من المعايير التي يجري قياس فاعليته بمدى الأخذ بها من عدمه في صناعة المحتويات على مستوى العالم، متمثلة في: معايير المحتوى (القصد منه، وشموليته وحداثة معلوماته، واعتماده للموضوعية والدقة، وسلامة لغته واحترام قواعدها)، والمعايير التقنية (سهولة الوصول الى الموقع والتجول فيه، وسرعة تحميل محتوياته، وتوافقه مع محركات البحث المختلفة، وتوافر المعلومات الاحصائية، وموثوقية الجهة الحاضنة له).
ومعايير الاخراج الفني (بنيته، ومعلوماته، ومظهره، وخريطته والتاكد من صلاحية عمل روابطه)، والمعايير الأخلاقية (المرتبطة باتباع قوانين الملكية الفكرية، واحترام حقوق الانسان، وشروط الخصوصية وسياسات النشر، إذ تمثل التحديات المتعلقة بتطبيق تلك المعايير مجتمعة مجموعة من المعوقات التي قللت من فرص تطوير صناعة المحتوى الرقمي العربي بشكل عام).
الاستراتيجية العراقية
لقد ناقشنا واقع المحتوى الرقمي العراقي ومناهج تطويره، في مناسبات محلية ودولية متعددة، وكان آخرها مشاركتنا في بحثنا المختص: “التزام صناع المحتوى الرقمي العراقي بمعايير الجودة العالمية”، ضمن وقائع: “المؤتمر العلمي الدولي الثالث لقسم الاعلام في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس: الاتصال الجماهيري في البيئة الرقمية: بين ضرورات التربية الإعلامية ومتطلبات التعليم الإعلامي”، للخوض في آليات تنظيم الصناعة غير المنهجية للمحتويات الرقمية في العراق، والتي أخذت تحدّث تفاعلاً كبيراً، حتى وان خالف الكثير منها القيم الاجتماعية والأخلاقية السائدة، بعد ان قوبلت بمتابعات وصلت إلى عشرات الملايين.
وتوصل البحث إلى مجموعة من النتائج، كان من بينها: ان نتائج البحث أشّرت عدم التزام صناعة المحتوى الرقمي العراقي بأغلب معايير الجودة العالمية، لاسيما ما يتعلق بمعايير المحتوى، الامر الذي كرس من تراجع جودة تلك المحتويات، فيما لا يمتلك صناع المحتوى الرقمي في العراق تصوراً كافياً عن متطلبات جودة المحتويات، وكان لغياب المؤسسات الحكومية والتعليمية المعنية بالتنشئة الرقمية أثراً كبيراً في ذلك، فيما تعتمد مقاييس صناعة المحتوى الرقمي العراقي على معيار الرواج والانتشار باتباع “ترند” العراق أو المنشورات الرائجة عبر وسائط التواصل الاجتماعي، بصرف النظر عن جودتها، لدواعي ترتبط بالحصول على أكبر قدر من المتابعين.
ان هذا يدعو لارساء ثقافة الجودة في صناعة المحتوى الرقمي العراقي، والتوعية بأهميتها، عن طريق استرتيجية تتبناها هيئة الإعلام والاتصالات في العراق، تعمل على تنمية المهارات الرقمية للمستخدمين في العراق على جميع مستوياتهم، تتضمن ايجاد آلية مركزية لقياس جودة المحتوى الرقمي العراقي، على وفق اطر الشفافية والمهنية، وتصنيف المحتويات على وفق معايير الجودة المعتتمدة، وبما يعمل على خلق منافسة مهنية بين صنّاع المحتوى الرقمي تعمل على تطوير نتاجاتهم.
إلى جانب ضرورة قيام الجامعات والمؤسسات الأكاديمية والمدرسية العراقية بأدوراها في مجال تنمية المهارات الرقمية، بضرورة البدء بإدراج مواد التنشئة الرقمية ضمن المناهج التعليمية، ودعم صنّاع المحتوى الرقمي في العراق، من قبل الاجهزة الحكومية المعنية بقطاعي الاتصالات والإعلام، وبما يعمل على ارساء أسس سليمة للنشر الرقمي.