الاستاذ الدكتور مظهر محمد صالح
مستشار رئيس الوزراء للسياسة المالية
بدأ المساء اللامع يهمس في اذني مجدداً، ليبدد داب الليل، وانا مازلت اقلب في سلسلة اختياراتي الذهنية الحرة، كي اسأل سائق حافلتي، قاصداً واحدة من افخم دور بيع الكتب والمؤلفات في ذلك الحي الجميل، من قلب العاصمة الامريكية واشنطن، وهو الحي القديم من المدينة المسمى جورج تاون.
كانت المتعة النادرة التي ترافق رحلتي في كل مرة عند زيارتي لشمال القارة الامريكية، هي اقتناء كتاب او كتابين، في علم الاقتصاد الحديث.. هنا اجابني السائق بهدوء وهو يتطلع الى لوحة رقمية شديدة الوقع امامه قائلاً لي: لا توجد هكذا دار للكتب حالياً ايها الرجل وفي هذا المكان من المدينة!
اجبته من فوري، وبصوت شرقي مرتفع، ويحك، فقد اقتنيت منها اكثر من كتاب، في خريف العام 2011.. انها دار الكتب المسماة: بارنز آند نوبلز!..
اجابني بهدوء ثانية: اعلم ايها المثقف القادم من شرق المتوسط، ان التقدم في هذه الاصقاع من الارض اخذ يجري بسرعة البرق وان ما تبحث عنه قد اختفى بهبوط القراءة الورقية وتقلصها من على رفوف المكتبات وتفوق القراءة الرقمية الافتراضية في كل زاوية…. انه العصر الرقمي الحديث…. انه عصر يطرح مسرعاً موضوع اعادة تشكيل مستقبل الافراد والأمم والأعمال بآفاق جديدة في البحث عن الحقيقة العلمية وإخضاعها للنقد والتقييم.
فقد تغيرت نظرتنا الى العالم الشبكي المحيط بنا وانه غدا عالم اكثر بكثير مما يحيط به خيالك عن ثورة الاتصالات.. فقريباً جداً سيصبح جميع سكان الارض متصلين بالشبكة الرقمية العنكبوتية وعندها ستصبح تقانات الاتصالات الحديثة متاحة للجميع بما فيهم صيادوا الاسماك في بلاد مابين النهرين…. وستتمتعون انتم ايها المثقفون بسلطة معلوماتية ستمكنكم من استخدام الذكاء والبحث والتفكير النقدي لحل مشكلاتكم المجتمعية المعاصرة.
فلابد من ان تُنموا وعيكم بشكل متسارع وبقدرٍ واسع من الثقافة والمعرفة والحداثة الافتراضية في الفن والادب والسياسة والاجتماع وبادوات معلوماتية متجددة يمسك العالم اليوم بزمامها .فانتم شعوب الشرق امام بوابات مستقبل ثقافي، لا يمكن التحكم بها الا رقمياً، وستوُضع تلك المقاليد الافتراضية بيد من يعدُ نفسه من نخبة المجتمع وصفوته الفكرية.
عجبت ما سمعت من سائق الحافلة من حكمة رقمية وتكلمت وقتها في سري قائلاً: ان بلاد ما بين النهرين هي مُركب راسخ من تقاليد مقدسة في الثقافة، فاذا ما اختل منه عنصر تطاير البناء وتفتت الحكمة.. فينبغي ان نحافظ على تلك التقاليد ونساندها بقوى رقمية متجددة قوامها الحداثة.
فالمثقفون هم نور المعرفة وبناة القرار وقوة المجتمع وهم المبلغون لهذا النور.. فكيف نسمح ان يحل محل مثقفينا اجيالاً رقمية خالية من الثقافة التقليدية… انه صراع قادم بين الاجيال من اجل الامساك بمقاليد الثقافة القادمة لبلوغ محاور السداد والرشاد… فالقلب الرقمي ان شاء ان ينطق بالخير فانما سينطق بارادة قوة سامية غير منظورة مادتها التقاليد وتراث حضارة ما بين النهرين.
رجعتُ الى مهجعي، وانا لازلت اكلم سري، بانه لابد من احياء الماضي والتمسك بالثقافة الالتماسية وانا لا اتعدى في الاحوال كافة جدران غرفة معيشتي.. ولابد من ان ادرك في الوقت نفسه ان الاجهزة الرقمية تحمل ادمغة عميقة تُدون الاعمال التي قمت بها فضلاً عن الاماكن التي زرتها كي اسجل ذلك الماضي التليد، وأعيش مرة اخرى بحواسي جميعها بمؤازرة قوة رقمية موجبة.
وانه لا بد من ان نبتعد حقاُ عن الخوض في ادوار الجيوش الالكترونية ولعبة الصراع في الفضاء الافتراضي او ولوج عصر الحرب الباردة الرقمية في عالم بدأ يتشكل بثنائية قطبية رقمية خطيرة من جديد.
لم تفاجئني تلك الثانوية الأهلية لطالبات النخبة الميسورة، التي جرى افتتاحها في المبنى المجاور لبيتنا، وهي لا تضم سوى بضعة صفوف او قاعات دراسية قليلة للغاية.. سألت مراقب المدرسة ذات يوم، وانا اتذكر سعة مدرستي الثانوية قبل خمسة عقود، قائلاً له:هل في هذه الثانوية مرسم وهل يوجد مختبر للكيمياء وفي اي زاوية يجلس مسرح المدرسة او قاعة العابها ….!
هنا تظاهر مراقب المدرسة بالدهشة وأجابني منفعلاً قائلاً: كلا بالتاكيد… ولكن هذه المدرسة تنفرد يشيء لا مثيل له في سابق ازمنتكم ..! قلت له وما شكل هذا التفرد؟ اجابني انه امام كل تلميذة في هذه الثانوية جهاز حاسوب يتواصل الطلبة من خلاله مع دائرة المعارف الافتراضية في العالم، سواء من فنون مسرحية او تجارب مختبرية او الحلول نظرية.
تركت الرجل وانا اطلق ساقيَ مستسلماً للعصر الرقمي الحديث وانا اتمتم في نفسي ..لقد بدأنا نتغلب على عصر الامية الرقمية من دون ان نغفل مخاطر الامية الابجدية، فبناء الثقافة الرقمية لابد من يتبعها سلام رقمي يقوده جيل بعيد عن مشكلات العالم “الجيوسياسية” الاكثر تعقيداً، وولوج عالم رقمي تتصارع فيه الجيوش الافتراضية، بحروبها الناعمة او ممارسة م ايسمى بالطَرق “الرقمي” الناعم على جدران الأمم..!