الدكتور صفد الشمري
رئيس مجلس المسار الرقمي العراقي
نُشرت في جريدة “الصباح” بالعدد (5357) في 14/3/2022
بات التزام المؤسسات الحكومية وباقي القطاعات الفاعلة في المجتمعات، والشخصيات الحكومية والساسية والعامة، بممارسات الافصاح الإلكتروني، والإعلان عن بيانات ومعلومات وتقارير سير الأعمال وانتاج الخدمات، عبر أوعيتها الرقمية للرأي العام، أمراً لا يمكن الحياد عنه، ضمن مجهود تقويض فرص الفساد والتلاعب بموارد المجتمعات، لما يمكن ان تقوم به تلك الممارسات، من مهام تعزيز الشفافية الحكومية!
وفي العراق، نكون بأشد الحاجة إلى الافصاح الإلكتروني لمواجهة الفساد، بتوفير البنية التحتية له، من تشريعات ونظم محددة، تقف على تفصيلات الإلزام به، من دون اتاحة أي مجال للتأويل، تحت مبررات “حظر نشر البيانات الحساسة أو حمايتها”، من دون تحديد نوع تلك البيانات وما هو مستواها، والجهة المعنية بالاحتفاظ بها، وإلى أي مدى، وتحت أي ظروف، يكون تقييد الافصاح مقبولاً؟
ناهيك عن مستلزمات البيئة الرقمية القادرة على ضمان ممارسة مثل هذا الإفصاح، على وفق المعايير الدولية، إذ يهتم العالم بأسره، بتأمين المستلزمات الرقمية له، ويؤشر التقرير الأخير لمسح الأمم المتحدة للحكومات الإلكترونية: “زيادة عدد الدول التي أقامت بوابات بيانات الحكومة المفتوحة بزيادة ملحوظة، وارتفعت من (46) دولة في العام 2014 بنسبة (24%)، إلى (153) دولة في العام 2020، بنسبة (80%)، وكانت هناك أيضاً زيادات في الميزات المرتبطة”.
ويؤكد التقرير الأممي بان من الدول التي شملها المسح الأممي، صارت (59%) منها لديها سياسة بيانات الحكومة المفتوحة، و(62%) عندها بيانات وصفية أو قاموس بيانات، وفيما تقبل ما نسبته (57%) من تلك الدول الطلبات العامة للحصول على بيانات جديدة، تقدم (52%) إرشادات حول استخدام الحكومة المفتوحة، وهو ما يصب في تعزيز الافصاح الإلكتروني وصيانة الشفافية، مع الإشارة إلى ان العراق خارج تلك النتائج كلها، لعدم اطلاقه الحكومة إلكترونية لغاية الآن، بل ان لا يمتلك نظام ادارة إلكتروني متشابك في الأساس!
تقتضي الشفافية الحكومية بوصفها الوضوح في الوظيفة والواجبات والمصادر وسير المعاملات وسبل اداء المسؤول بدوره ووضوح المعطيات والمعلومات بان تكون في متناول الجميع، بقيام مؤسسات الدولة بجميع أنواعها ومستوياتها وسلطاتها، التشريعية والتنفيذية والقضائية والهيئات المستقلة والحكومات المحلية، بالإفصاح عن أنشطتها المختلفة في التخطيط والتنفيذ.
ان السرية التي تكتنف العمل الحكومي تفضي في الغالب الى ممارسات الفساد، وتعطي فرصاً أكبر لانحراف واختراق موازنات الدولة والتلاعب بمواردها، لذا يمكن أن تحقق الشفافية مطلبين مرتبطين بالمساءلة والديمقراطية، يتجسدان في: وضوح الإجراءات وصحة ومصداقية عرض بيانات ومعلومات المؤسسات، ووضوح العلاقات فيما بينها، من حيث التخطيط والتمويل والتنفيذ، إلى جانب حق الناس في الوصول إلى المعلومات الصحيحة في الوقت المناسب، النابع من حقهم في المشاركة بصنع القرارات والسياسات العامة.
وفي العراق.. لم تتضمن المنظومة القانونية قبل العام 2003 الإشارة إلى قيمة أو مبدأ الشفافية، إلا ان النظام القانوني اعتمد مصطلح الشفافية بكثرة في القوانين الصادرة بعد تلك المرحلة، وكان من بينها قانون مفوضية النزاهة الملحق بأمر سلطة الائتلاف (55) لسنة 2014، ومن ثم قانون قانون هيئة النزاهة (30) لسنة 2011.
وقد وردت الإشارة الى “حق الاطلاع على المعلومات” بشكل صريح لأول مرة، في قانون حماية الصحفيين (21) لسنة 2011، بإشارة نص المادة الرابعة منه، إلى حق الصحفي في الحصول على المعلومات والأنباء والاحصاءات، وهو ما يفترض أن يعزز من فرص الافصاح الإلكتروني بالإفادة من هذا النص، على الرغم من ان المشرع قيد هذا بعبارة البيانات “غير المحظورة”، ثم عاد فقيد “حق نشرها” بعبارة “في حدود القانون” من دون تحديد ما هي المحظورة وغير المحظورة، وبيان ما هي “حدود القانون” المشار إليها في هذا النص.
وهناك من البيانات التي يجري حظر الإفصاح عنها لتبويبها ضمن فئة “البيانات الحساسة”، ومنها البيانات التحتية الوطنية، المتمثلة بالعناصر الأساسية للبنة التحتية، من قبيل الأصول والمرافق والنظم والشبكات، وحتى العمليات والعاملين الأساسيين الذي يقومون بتشغيلها ومعالجتها.
وبموجب رؤى المؤيدين لهذا الحظر، فقد يؤدي الإفصاح غير المسموح به للبيانات، أو فقدانها أو تعرضها للانتهاكات إلى مؤثرين، يتمثل أولهما بوقوع الأثر السلبي الكبير على توافر الخدمات الأساسية، أو تكاملها أو تسليمها، بما في ذلك الخدمات التي يمكن أن تؤدي في حال تعرض سلامتها للخطر، الى خسائر كبيرة في الممتلكات أو الأرواح أو الإصابات، مع مراعاة الآثار الاقتصادية أو الاجتماعية الكبيرة، أما المؤثر الآخر فيتموضع في التأثير الكبير في الأمن القومي، أو الدفاع الوطني أو اقتصاد الدولة، أو مقدرتها الوطنية.
ينبغي ان يرتبط تحديد المدى الأقصى للإفصاح الإلكتروني عن البيانات عبر الأوعية الرقمية، بمبدأ المكاشفة لأقصى حد، وان يكون الأصل في كل البيانات الحكومية والعامة وذات الأهمية الفائقة في المجتمعات، هو الكشف عنها والتمكين من طلبها للضرورة الملحة، ويتعلق بذلك تعريف “البيانات” التي هي محل الإفصاح الإلكتروني، ليشمل جميع أنواع المعلومات والوثائق التي تضع السلطات العامة اليد عليها، وشمول جميع السلطات والهيئات والمؤسسات، بالخضوع لمبدأ الإعلان عن معلوماتها على وفق ما يعرف بالإفصاح الإلكتروني، لتعزيز الشفافية الحكومية في العراق.