الدكتور صفد الشمري
رئيس مجلس المسار الرقمي العراقي
نُشرت في جريدة “الصباح” بالعدد 5351 في 7/3/2022
هل يجري احتساب غياب الوعي الرقمي على المستوى المجتمعي في العراق على انه من أشكال “الأمية رقمية”، وان كانت الأمر بهذا المؤشر الحذر من القياس، هل تقتصر حدود تلك “الأمية” على شرائح بعينها، أو تقف عند مستويات عمرية أو إدارية أو علمية معينة، مثلما هي الحال مع تلك الأمية التقليدية، وهل هناك مناهج أو استراتيجيات حقيقية تهدف إلى مواجهة “الأمية الرقمية” على الصعيد الاجتماعي، وهل يؤثر الابقاء على هذه “الأمية الجديدة” في مستقبل البلاد ومقبل أجياله؟
علينا ان نقر علانية بان “الأمية الجديدة” باتت تمثل خطراً أكبر حتى من تلك الأمية التقليدية، التي يجري مواجهتها من قبل المؤسسات التربوية، تحت ضغط الظروف المعروفة، وما انتجته من مظاهر التسرب من الدراسة، أو عدم قدرة الالتحاق بها أصلاً، وبالتالي يمكن ان يجري تحديد ملامح هذه الأمية ،ووضع خريطة طريق مواجهتها على وفق المعطيات التي تنتجها عمليات المسح والقياس..!
الأمية الجديدة
لكن، كيف يكون الأمر مع “الأمية الجديدة”، والمتمثلة بالأمية الرقمية، التي يكمن شديد مخاطرها بانها لا تتحدد بمستوى عمري أو معرفي أو إداري معين، لاسيما ان آثارها صارت آخذة بالتزايد، كلما ارتقت إلى المستويات الإدارية العليا على مستوى الدولة، والتي يكون بين ايديها “صنعة القرار”، في المواضع كلها، بعد ان تغلغلت الممارسات الرقمية في كل مرافق الحياة، وصارت الركن الأساس لتسييرها؟
من حيث المبدأ.. تتطلب “الأمية الرقمية”، التي تعد من التحديات الكبيرة التي تواجه الإعداد الإلكتروني السليم للفرد والمجتمع، من أجل بلوغ المعرفة المعلوماتية، لإشباع إحتياجات الأفراد والمؤسسات المتنوعة، ومساعدتها على حل مشكلاتها، ورفع مستويات الإداء فيها، وبحسب مؤلف “الإعلام وتكنولوجيا المعلومات”، فان الوسط الذي تسوده “الأمية الرقمية”، لا يمكنه إدراك الحاجة إلى المعلومات التي تمثل قاعدة صناعة النتاجات المعاصرة، والوصول إلى المعلومات المطلوبة بفاعلية من بين الكم الهائل منها، بعد تقويم المتاح منها وتحديد مصادرها، واستعمالها بشكل سليم، وهو ما يعني بالنتيجة فهم القضايا العلمية والاقتصادية والاجتماعية والتشريعية والفنية المتعلقة باستعمال تكنولوجيا المعلومات بشكل جيد.. وتخيلوا معنا مستقبل البلاد في ظل هذا الواقع!
ان ما يعزز ما اطروحتنا في ضرورات مواجهة “الأمية الرقمية”، ما تذهب إليه دراسات التربية الإلكترونية، بان مفهوم “الأمية الجديدة” في عصر المعلومات والتطورات التقنية المتواصلة لم يعد محصوراً في ضعف أو عدم القدرة التقليدية على القراءة والكتابة التقليدية فحسب، بل في عدم القدرة الإنسان على التكيف مع المواقف المتغيرة في التعامل مع الآخر والعمل والحياة، فيما يجري تصنيفه تحت مسمى “ثقافة التكيف”، التي تُمكّن الفرد من تطوير مهاراته في التعامل مع المواقف الجديدة من دون تردّد.
إن الخوض في جوانب وضع استراتيجيات تذليل معرقلات تكوين مجتمع المعلومات الذي صار حقيقة لا يمكن التهاون في التعاطي معها، يتطلب أن نقف عند عدد من الحقائق، تتمثل في شيوع العولمة مرحلة أولى، إذ ان ديناميكية العولمة وآليات حراكها لا يمكن تجاهلها اليوم، بل ينبغي تحليل دوافعها وأهدافها وإدراك كيفية استثمار ايجابياتها والتعامل مع سلبياتها.
وإذا كان المتحكمون في تلك العولمة يسعون إلى صياغة ثقافة كونية شاملة تغطي شتى جوانب النشاط الإنساني، مستهدفين خلق الإنسان العالمي المبرمج، بالبعد الواحد المؤمن بإيديولوجية السوق العالمية، فان ذلك لا يمكن ان يتحقق إلا بفعل تقانات الرقمنة، ومن هنا تأتي ضرورة فهم دينامكية العولمة بشكلها الجديد، للتمكن من التعامل معها، ضمن إطار تمكين الأفراد من فهم الأفكار المُستحدثة، التي تقاطرت نتاج تلك العولمة، وما تبعها من متغيرات.
وتمثل الحاجة الرقمية الحقيقة الثانية في هذا المضمار، ذلك ان من يمتلك تقانات المعلومات صار يمتلك القدرة على مواجهة الآخرين، كما ان من لا يمتلكها ليس بوسعه أن يبعد نفسه عن تأثيرات الآخرين، “كما إن احتمال اتساع الفجوة بين المجتمع العراقي، وبين المجتمعات المصنعة للتكنولوجيا سيبقى قائماً، فيما تمثل حتمية مجتمع المعرفة الحقيقة الأكثر خطورة، وتتجسد في ان تجاهل أطروحة مجتمع المعرفة بوجه عام، وتأثيرات الفضاء المعلوماتي والفجوة الرقمية بوجه خاص في المجال المحلي لم يعد خياراً ممكناً.
وتُظهر تلك الحقائق واقعيتها مع ما تعانيه بعض المجتمعات من “أمية رقمية”، ومنها العراق، ومعلوم بان مثل تلك “الأمية”، التي تنوّه بعدم إمتلاك الفرد إلى الخبرات والمهارات المطلوبة التي تؤهله لبلوغ مرحلة الإستثمار الأمثل لموارد المعلومات واستخدامات التقانات، هي “أمية جديدة” تختص بالمجتمع المعاصر، إذ انها لم تكن موجودة في المجتمعات السابقة، فقد حدثت “الأمية الرقمية” بسبب التطوّر الكبير والتسارع في تكنولوجيا المعلومات، الذي لم يعط الفرص الكافية للأفراد والمجتمعات للتعرف على هذه التكنولوجيا، وتعلم استعمالاتها والإفادة منها في المجال المعلوماتي.
وقد تكون وراء انتشار “الأمية الجديدة” العديد من الأسباب، لعل في مقدمتها التنافس القائم بين الدول والمجتمعات، ومنها اللحاق بركب التطوّر الحاصل على مستوى العالم، وإن هذا النوع من “الأمية” لا يصيب عامة الأفراد فقط، وإنما تمتد أخطاره إلى جماعات النُخب المثقفة والأكاديمية، وهنا يكون خطر تلك “الأمية” أشد خطراً!
المواجهة الملزمة
إن القوة الحقيقية الفعالة في الألفية الثالثة هي المعلومات والتوظيف الرقمي الرشيد، حين صارت واحدة من أبرز علامات قوة الدولة على مستوى العالم، وبات من يمتلكها يملك بالنتيجة العقل والقدرة على التفكير وتعلم المعارف المفيدة وإعادة تعلمها واتخاذ القرارات والأعمال الفاعلة، وهو ما يستدعي منا صحوة لمواجهة الأمية الرقمية، في استراتيجية دولة، يكون للمناهج الدراسية النصيب الأكبر فيها، كون مواجهة “الأمية الجديدة”، صارت في واقع الحال إلزامية، لإعداد الأجيال وبناء المستقبل..!