الدكتور صفد الشمري
رئيس مجلس المسار الرقمي العراقي
نُشرت في جريدة “الصباح” بالعدد 5324 في 30/1/2022
أخذت المحتويات الرقمية، على اختلاف أشكالها وتعدد مصادرها، وبفعل عناصر الاجتذاب والمحاكاة والتأثير التي احتكمت عليها، تعيد تشكيل الهوية الثقافية للشباب العراقي، على وفق المنطلقات التي لا تراعي خصوصيات البيئة المحلية وأخلاقياتها، الامر الذي هيّأ لاتجاهات، انتجت ممارسات، يصل البعض منها حد الإجرام، لم تكن مألوفة للعيان حتى وقت قريب، افرزت تصدعاتها الأسرية والمجتمعية، أثر حلول القيم الثقافية البديلة، في خضم عملية صراع نفسي وإجتماعي خلّف منظومة تصادم مع خصوصيات المجتمعية وهوياتها الثقافية.
الواقع الأكثر قسوة!
بدأت المحتويات الرقمية المتاحة تترك انطباعات مؤثرة لدى المستخدمين وخاصة من فئة الشباب، نسبة إلى إعلامية تقليدية كان يمكن ضبط البعض منها على وفق آليات معينة، حين أوجدت لهم الشعور بالمشاركة في الأحداث بالنيابة، أو ما يسمى بعامل الحضور، وهي الصفة النوعية التي تميز بها، عن غيره من بقية الوسائل، من حيث مقدرتها في التأثير، ويزيد هذا الدور مع استخدامات الواقع المعزز، الذي سيكون المرحلة الأشد خطورة وقسوة من أية حقبة سبقت، في جوانب تشكيل الهوية الثقافية
ويزيد من أهمية الدور الذي يمكن أن تؤديه هذه الأوعية في المجتمعات، الاعتقاد بان: إلانترنت يشكل القيّم والعادات السلوكية، أكثر من أية منظومات أخرى اليوم، وانه كلما زادت فرص استخداماته، كلما أصبح الفرد يميل إلى الاعتقاد بالعالم ورؤيته، وفقاً لما تقدمها المحتويات، وذلك على الرغم من الدراية بان أغلب ما تقدمه يمكن ان يكون مضللاً، فضلاً عن خلق الأوهام عن الواقع، يمكن الإحساس بها على نحو أقوى من التجربة الفعلية، إذ صارت قادرة على نقل أجزاء من الحياة من بعد زمني إلى آخر، وما يزيد من مخاطر تلك الاستخدمات تحذير الدراسات من ان الإعادة والتكرار المستمر للأحداث المثيرة يشكل شيئاً مختلفاً تماماً، يستطيع أن يراكم الإحساس والانفعال فوق العاطفة، إلى أن تصبح الإستجابة التراكمية أعظم وأقوى من رد الفعل الأول، ويتوجب علينا الوقوف على تلك المخاطر ومعرفة أثرها في تشكيل الهوية الثقافية للشباب لدينا.
ان شيوع الاستخدامات الرقمية كعنصر رئيس في البيئة الاتصالية المعاصرة، ضاعف من قدر تأثيرها وزاد من حجم تأثيراتها في الرأي العام والنظم الحاكمة والمجتمع بشكل عام، وفي ظل هذا النمط الاتصالي الجديد، صار لها المقدرة في الإقناع، بالمضامين والرؤى والأفكار التي تتبناها، وحتى تؤدي دورها “الثقافي” فانها تتحرك وفق مبدأ حق الناس في المعرفة، وعادة ما يتم التعامل مع هذا الحق، كضرورة واقعية في تسهيل حصول الناس إلى المعلومات.
ولا يكتفي الاتصال بذلك، بل يبحث عن الأفكار المميزة التي يحتاجها الجمهور، ويقوم ببثها إليهم، إلا ان وجود أهداف وغايات معينة قد ينتج عنه توجيه مسار هذا الدور صوب تحقيق مآرب وغايات، تمثل تحدياً لهويات ثقافية لجماهير مستهدفة عن قصد، وهو ما نحاول التأكيد عليه في اطروحتنا المختصة بصراع المحتويات الرقمية في تشكيل الهوية الثقافية.
عولمة الثقافة
من بين التحديات التي واجهت الهوية الثقافية في العراق ما يرتبط بالعوامل الداخلية التي هيأت الجمهور لتبني الهويات الفرعية، بديلة عن الهويات الرئيسة للمجتمع، وقد بحثت دراسة “التلفزيون وتشكيل صورة الهوية الوطنية لدى طلبة جامعة بغداد” دور خطاب الأزمات في تأجيج نزعات الهويات الفرعية والثانوية بالضد من ترسيخ ثقافة الهوية الوطنية في العراق مفهوماً وممارسة، عن قصد أو من دونه.
وكان في القياس ما أشر الإعتماد على أوعية تلك الخطابات في متابعة القضايا والمُستجدات العراقية المهمة، وبما أسهم في تشكيل صورة الهوية الوطنية، عندها اتسمت صورة الهوية الوطنية لديهم بالسلبية، وكانت بواعث تشكيل هذه الصورة عوامل عدة منها: تحديات الفتنة الطائفية، والمحاصصة السياسية، والفساد، والصراع الحزبي على السلطة.
وبالرغم من إتجاه المبحوثين نحو تأييد الإلتزام بالهوية الوطنية من حيث المبدأ، تبين لنا ان الصورة السلبية التي تكونت لديهم عن هذه الهوية، دفع بهم الى تأييد الإلتزام بالهويات الجماعية الأخرى (القومية، والدينية، والحزبية، والعشائرية، …)، لحماية الهوية الوطنية التي تعرضت الى إنتكاسات عدة.
وكان لخضوع مفهوم الهوية الوطنية للخطاب، وتقاطع الخطاب الواحد في الوعاء عينه، نتيجة تضارب أو تقاطع المصالح السياسية أثره في تشكيل الصورة السلبية عن الهوية الوطنية لدى العراقيين، فيما جرى التركيز على ضرورة حماية الهوية الوطنية بإلتزام الهويات الجماعية الأخرى، مما هيّأ مجالاً نحو الإنتماء الى تلك الهويات، نظراً لما يمكن ان يحصلوا عن طريقها من إمتيازات ومكاسب وحماية، شككوا في مديات تأمينها في حال التخلي عن الدعم المطلق لهذه الهويات، فكيف تكون الحال مع الخطابات والمضامين التي تتبناها الأوعية الرقمية في هذا المضمار؟
التطبيع الثقافي!
الغزو الثقافي الذي كنا نتحدث عنه في سابق السنوات صار تطبيعاً، حين وفرّت استخدامات الانترنت المتاحة إمكانية أن يشهد الفرد ما يجري حوله في العالم مباشرة، وعلى الطريقة التي يريد ان يصورها له صنّاع المحتويات الرقمية، أو من يقف في مساندتهم، وصارت أوعيتها مجالاً مفتوحاً للإخبار والترفيه والإرشاد والتثقيف والتعليم والتنمية، تلك المسميات الكبيرة التي كانت بحاجة إلى مؤسسات ومنظومات كبيرة للتعاطي معها، كونها مسؤولة عن تشكيل الهوية الثقافية، على وفق القيم الوطنية السائدة..!
المحتويات الرقمية اليوم، صارت البديل الأكثر أثراً عنها في تشكيل تلك الهوية، وصارت تسهم في صناعة جيل بأكمله، وهو ما يدفع بنا نحو مضاعفة الجهود بمسابقة الزمن، للإسهام في دعم المحتويات الرقمية الملتزمة بالهوية العراقية، وبما يمكّنها من منافسة القيم الهزيلة التي أغرقت الأوعية الرقمية، واجتذبت الشباب وأحاطت بهم في كل موضع ومرمى، على وفق استراتيجية فاعلة، لخطوات حقيقية تظهر أثرها على أرض الواقع، قبل ان تضيع الهوية..!