الدكتور صفد الشمري
رئيس مجلس المسار الرقمي العراقي
مع كل يوم تكون هناك قصة أو كثر، تشغل اهتمامات جمهور وسائط التواصل الاجتماعي، بالتعاطف أو الاستهجان أو الرغبة بالتبني أو الحل أو المشاركة، حتى صارت الفضاءات الرقمية منبراً بديلاً عن مكاتب شؤون المواطنين يعج بالمطالب: لماذا ينصرف العراقيون إلى تلك الفضاءات في مسعى ايصال رسائلهم بقضايا احتياجاتهم إلى المعنيين بتلبيتها؟
إذا كانت النظرة التقليدية للوسائل الاتصالية نوّهت بتوظيف النظم الحاكمة والأحزاب والتيارات السياسية للإعلام من أجل تحقيق عدد من الأهداف، فان جملة المتغيرات التقنية والإعلامية الدولية، التي امتاز بها المجال الجديد للإعلام، تضعنا أمام ضرورة الإعلان عن وظائف ديمقراطية لهذا المجال، فمثلما مارست وسائل الاتصال وظائفها في مسرّحة الحياة السياسية والتعبئة وتزييف الوعي السياسي، صارت الأوعية الرقمية منابر الناس لتداول الرأي فيها والمطالبة بالحقوق والكشف عن الانتهاكات التي تحصل في مجتمعاتهم.
بين الحاكم والمحكوم
ابداء الرأي والكشف عن المطالب لم يقف عند استخدامات حسابات وصفحات وسائط التواصل الاجتماعي، بل ان سطوة القوى النافذة على وسائل الإعلام التقليدية جرى اختراقها هي الأخرى من قبل عامة الناس، بعد ان صارت بشكلها الجديد ميسّرة بشكل أكبر بفعل ما يسمى بظاهرة الإندماج، التي تشير إلى الإستعمال الشامل للرقمية في الوسائل والتقنيات الاتصالية كافة.
هذا كله سمح بتشبيك الوسائل التقليدية التي كانت تعمل بشكل منفصل، فمن الناحية التقنية أتاحت عملية “التشبيك” بين الإعلام وبين الأوعية الرقمية إمكانية ربط أجهزة ووسائل إعلامية كانت تأريخياً لها قوتها في التأثير، فإذا كان التلفزيون على سبيل المثال وسيلة إشتغلت على وفق مبدأ الاتصال الجماهيري بالبث من نقطة نحو الجمهور،فان الإندماج أعاد تشكيل طبيعة التلفزيون بالكامل..!
وفضلاً عن وظائفه الإعلامية المعروفة، أصبح التلفزيون يعمل فضاءً تواصلياً بين الأفراد، يتحاورون بوساطته وداخله، وهو ما دفع إلى إنتاج برامج تلفزيونية جديدة تقوم على مبدأ إحداث فضاءات للحوار والنقاش وإبداء الرأي، من منطلق إن للمتلقي العادي حق النقاش في المسائل العمومية، بالإستعانة بالأوعية الرقمية وتقاناتها وبرامجياتها غير المكلفة بالنسبة للجمهور.
كما أتاح النشر الإلكتروني لفئات وجماعات خارج النخب الحاكمة إيصال أصواتها للآخرين، عبر مواقع الإلكترونية والمنتديات والمجموعات الرقمية المعروفة بمسمى “الكروبات” والحسابات الإلكترونية للسياسيين والشخصيات العامة ورجال الدين وغيرهم، فضلاً عن الأفراد العاديين ومكنتهم من أن يكونوا كتّاباً ومنتجين للمعلومات التي تحرك الرأي العام، وليسوا مستهلكين لها فقط، متجاوزين قيود وعوائق استخدام وسائل الإعلام التقليدية كلها.
الديمقراطية الرقمية!
زادت من أهمية النشر الإلكتروني في المجال الديمقراطي من قبل العامة، استعانة كبريات الصحف والقنوات التلفزيونية الإخبارية بتلك الفضاءات الرقمية واستقطبت صنّاع محتوياتها البارزين، وكان من نتاج ذلك تعزيز وظائف الإعلام الديمقراطية في المجتمعات، وهو ما ساعد في توسيع دائرة مسؤولية الفرد في صناعة القرارات المصيرية وإدارة شؤون البلاد، كما إن نشر المعلومات وتبادل الأفكار والحوار حول القضايا المهمة من شانه أن يثير حماس الناس للمشاركة في الحياة العامة، وان يدفعهم للتفكير في الحلول السليمة لمشاكلهم العامة.
وأخذت المحتويات الرقمية على تعدد اشكالها ومضامينها تؤثر في الوظائف السياسية لوسائل الإعلام التقليدية وتسهم في ترتيب أولوياتها ووضع أجندتها الخاصة، حين بدأت تمتلك تأثيراً عميقاً وفعالاً ومباشراً على صناع القرار السياسي في العالم، حيث أوضحت نتائج احدى الدراسات إن 90% من أعضاء الكونغرس الأمريكي يحرصون على متابعة المجال الرقمي العام بشكل منتظم مما يشير إلى دوره في التأثير على صناع القرار.
وتشير الدراسات الحديثة إلى أن استخدامات الأوعية الرقمية في الدول التي تصنّف بأنها غير ديمقراطية ساعدت في كسر الطوق على بعض الجماعات السياسية، مما دفع البعض إلى الإعتقاد بان التكنولوجيا الحديثة لوسائل الاتصال، أمست عدو النظم السياسية التي تنتهك حقوق الأفراد، لان وسائل الإعلام التقليدية كانت تدعمهم، فصار المجال الافتراضي الرقمي يعطي القوة للأفراد والجماعات التي هيأت مساحات التواصل الاجتماعي لامتلاكهم القدرة في نشر أي تفسير سياسي، من دون الاضطرار للتعامل مع “حراس البوابة” التقليديين، مما جعل النشر في الِشأن السياسي يؤثر على الحياة العامة في المجتمعات!
وقد أكدنا في كتابنا “الإعلام والتحوّلات العربية” الصادر عن شبكة الإعلام العراقي على ان الوظائف التي يمكن أن يؤديها الإعلام الجديد، والاستخدامات الإعلامية للأوعية الرقمية، تغيرت بشكل كبير حين أخذت تمارس ادواراً غير تلك التي كانت تؤديها في السابق بالتعبئة الحكومية والتسويق للنظرة الحكومية غير القابلة للنقاش في ادارة شؤون الدولة، وهو ما عاد بأثره في تقويض صلاحيات تلك النظم على أرض الواقع، وسببت لها حرجاً محلياً ودولياً في الكثير من الحالات وقد دفعتها للتراجع مرات عدة عن قرارات واجراءات قوبلت برفض جماهيري حشّدت له وسائط التواصل الاجتماعي، وعاقبت العديد من كبار مسؤوليها ممن تسببوا بإيذاء لفئات محلية عقب نشر قصصهم عبر الأوعية الرقمية.
لقد أفقد التطور الرقمي واحدة من أهم الوسائل والأدوات الفاعلة للحكم السلطوي، التي كانت لها كامل السيطرة على تدفق المعلومات، وأصبحت السلطات الحكومية غير قادرة على مواجهة تأثير التكنولوجيا التي تدعم الإتصال الحر المتدفق للمعلومات، حين صار التدفق السريع للمعلومات والتعرض المتواصل للثقافات المختلفة تشكيلاً جديداً لآراء ومفاهيم و إدراكات المواطنين في المجتمعات المختلفة.
المطالب الرقمية!
أخذت سبل الافصاح عن مطالب عامة الناس بالحقوق والاحتياجات مساراً مختلفاً من أية مرحلة سبقت تحت ضغط محتويات وسائط التواصل الاجتماعي وبقية الأوعية الرقمية في العراق والعالم، حين حطمّت احتكاراً طويل المدى مارسته النظم على الإعلام بشكل التقليدي، الذي كان اداةً ضاربة لها، حتى أتت التقنية الرقمية بخريطة طريق للوصول بالمطالب إلى الجهات المعنية بها، بعد أن تثيرها قضية رأي عام..!
ومع تحقق بعض المطالب التي اُثيرت قضاياها وموضوعاتها عبر تلك الوسائط، بدأت فئات مجتمعية متعددة تكون أكثر جرأة في الكشف عن مطالبها وبالطرائق ذاتها حين تكون قصصهم مثار اهتمام وتداول الجميع، وهو ما أحدث أثره في اعتماد الجمهور الوسائط الرقمية آلية يجدها الأكثر فاعلية وتأثيراً للمطالبة بالحقوق والوصول بها إلى الجهات المختصة، الامر الذي يستوجب العناية الحكومية بمحتويات تلك الوسائط، وتنظيم استخدامتها بالمجمل بتسويق الوعي وتنمية المهارات.