الدكتور صفد الشمري
رئيس مجلس المسار الرقمي العراقي
نُشرت في جريدة “الصباح” بالعدد 5332 في 8/2/2022
ماذا لو سببت المحتويات الرقمية، المرتبطة بشخصيتك أو القصص المتعلقة بيومياتك، والمتاحة عبر مواقع الإنترنت وحسابات وقنوات وسائط التواصل الاجتماعي بعد سنوات من نشرها، حرجاً لك، جرّاء التغيرات الحاصلة من حولك، وماذا لو وثّقت تلك المحتويات علاقتك بأشخاص أو مجموعات أو أحداث، وتجد ان الإبقاء عليها والوصول إليها عن طريق محركات البحث بات أمراً لا يليق بمكانتك الاجتماعية والاعتبارية، وبما قد ينزلك عرضةً للتسقيط والامتهان؟
حق النسيان الرقمي، الذي ينبغي ان تكفله التشريعات العراقية النافذة، صار مطلباً ينبغي التأكيد عليه، بعدّه الأداة التي تمكّن المستخدم الاعتيادي في التحكم في أصوله وآثاره الرقمية، من المعلومات المتعلقة بحياته العامة أو الخاصة، بعد ان يقف على قناعة بان الابقاء عليها في مواقع الانترنت قد تسبب له الضرر، بالنظر لمرور مدة زمنية على نشرها، حدثت بعدها مجموعة من الظروف: فهل يعي أغلب مستخدمينا مثل هذا الحق؟
هذا الحق، يرتبط بالمحتويات التي تنشرها الأوعية الرقمية التي يمتلك حق اداراتها غيرك، على شكل مواقع أخبارية أو قواعد بيانات أو حسابات وسائط تواصل اجتماعي وما إلى ذلك، وبالتالي لا يمكنك حذفها أو تعديلها بنفسك، وهو يختلف تماماً عن حق “البلاغات الإلكترونية” التي يتقدم بها المستخدمون لإدارات تلك الوسائط للإبلاغ عن محتوى يخالف المعايير المسموح بها، ومنها تلك التي تحرّض على العنف او الكراهية أو التمييز أو الجريمة، أو تتضمن المشاهد غير المقبول أو الملائم مشاهدتها.
بعد حين!
يتعلق “حق النيسان الرقمي” بصلاحية المستخدم الاعتيادي في حذف أي محتوى أو بيانات متاحة يجد بان الابقاء عليها صار غير ملائم، من منطلق “حق النسيان الإنساني”، في اعطاء الفرصة لتجاوز الأخطاء والعفو التسامح وفتح صفحات جديدة للتعامل، ناهيك عن التبدلات التي تحصل في شخصية الفرد نفسه، والتي قد تدفعه بعد سنوات يرفض الممارسات التي كان يعتمدها في السابق، الأمر الذي يجعل من التوثيق الرقمي المتاح لأية فعالية أو ممارسة عقبة أمام مواصلته لطريقه الجديد، وهو ما يحدث تماماً حينما يجري إظهار محتويات رقمية مؤرشفة لشخصيات تتصدى لمهام وظيفية أو حكومية، بداعي النيل منها والإضرار بها!
ويجري العمل بهذا الحق في المجال الرقمي المختص بدول الاتحاد الأوربي منذ سنوات، حين تم الأخذ به بموجب حكم قضائي ملزم، أصدرته “محكمة العدل الاوربية” منتصف 2013 بحق شركة “كوكل” بضمان “حق النسيان الرقمي” لمواطني دول الاتحاد، لإمتلاكها أكبر محركات البحث المسؤولة عن معالجة المعطيات الشخصية التي تظهر في الانترنت، ويهدف الحكم إلى تمكين الافراد الاعتياديين من إلغاء روابط معينة تتعلق بهم في الصفحات الالكترونية، وهي تعود لمدة زمنية سابقة.
وعلى خلفية هذا الحكم، أطلقت شركة “كوكل” خدمة مخصصة للأوربيين، مكّنتهم من حذف المعلومات والروابط التي لا يرغبون ان تبقى مرتبطة بأسمائهم على الإنترنت، عملاً بحق النسيان الرقمي، وتقوم الخدمة عل فكرة مسح المستخدم لنتائج البحث المرتبطة به، كروابط أو مشاركات في وسائط التواصل الرقمي، يجد انها في غير محلها، أو انها غير ملائمة، أو لم تعد ذات صلة به، وتتم هذه العملية عبر إستمارة يعمل على تعبئتها المستخدم بنفسه، تتضمن بياناته الشخصية لإثبات علاقته المباشرة بالمحتويات المنشورة، يقوم بعدها بوضع الروابط التي يريد حذفها، لتتولى “كوكل” انجاز المهمة!
بالقاربة إلى البيئة العربية، تنوّه الدراسات بأهمية “حق النسيان الرقمي”، من باب ان عدم تضمينه صراحة في أغلب التشريعات النافذة لا يلغي واقعيته، خاصة ان نصوص القوانين أشارت إلى “فحواها وما تهدف إليه، في بعض المبادئ والأفكار القانونية كالتقادم مثلاً، فهذا الأخر وإن اختلف مع الحق في النسيان، من حيث شروطه ونطاقه، فهما يشتركان في فكرة الوقت ودوره في تخطى ومحو أثار مرحلة معينة.. فالتقادم خاصة الجزائي وبصفة أخص تقادم الدعوى العمومية يقوم على فكرة: ان مرور مدة زمنية معينة من إرتكاب الفعل المجرم دون اتخاذ أي إجراء من إجراءات المتابعة أو التحقيق، كفيل بأن يمحو عن الذاكرة الجماعية فظاعة الجريمة، وقسوة ارتكابها وتأثيرات ذلك على الرأي العام، وعلى الأمن العام بوجه عام، فتهدأ النفوس وتستقر الخواطر، وأنه يُفضل الإبقاء على هذا الحال بدلاً من إحياء ذكرى الجريمة”.
وتضيف الدراسات “يرتكز التقادم الجزائي على أساس فسلفي مفاده أن الزمن الذي يمر من تأريخ اقتراف الجريمة، وحتى فوات المدة القانونية للتقادم، يعد عقوبة طبيعية لمرتكب الجريمة، كما أن الوقت الذي يقضيه مرتكبها في جو نفسي من الخوف والترقب والخشية من افتضاح أمره، يدخله في دوامة من القلق والاضطراب والتوتر، قد تفوق النتائج المترتبة عن تنفيذ العقوبة”.
النسيان العراقي
حق النسيان الرقمي في العراق، الذي مازال يخوض معتركات تحوّلاته الرقمية والديمقراطية، بحاجة إلى التوعية به وتفعيله، وان يجري تضمينه في مسودات التشريعات واللوائح المرتبطة بالتنظيم الرقمي ومواجهة الجرائم المعلوماتية، خاصة ان آليات هذا التفعيل تبقى مرتبطة بالضوابط التشريعية النافذة، لاسيما مع حالات زوال مبرر الاحتفاط بالبيانات المرتبطة بالمستخدم، في الاوعية الرقمية المتاحة، وانعدام تدابير حمايتها أو تأمينها من التوظيف بالشكل الذي قد يلحق الاذى بصاحب البيانات الأصلي.
الأمر الذي يتوجب توافر آلية قانونية تؤمّن الاستجابة له في حال اعتراضه على الإبقاء على تلك البيانات، بل وحتى الاعتراض على كيفية معالجتها خلافاً لما جرى الاعلان عنه، قبل الادلاء بتلك البيانات، وهي تتطلب ضوابط تقنية كذلك تعمل على تعزيز امكانية توفير ضمانات حق النيسان الرقمي، ومنها حجب واخفاء هوية صاحب البيانات وتشفيرها، وحماية تضمين البيانات، بتحديد المعالجة المسموح بها من عدمها، والنشر المؤقت وسريع الزوال للبيانات على شبكة الانترنت، باعتماد نظام معلوماتي يقوم على مسح المعلومات والغاء البيانات التي يتم ادخالها من دون الحاجة لتدخل المستخدم.