الدكتور صفد الشمري
رئيس مجلس المسار الرقمي العراقي
بدأت المؤسسات التعليمية على مستوى العالم، تولي اهتماماتها بالاستخدامات الرقمية المتعددة، بعد ان تصدرت تسلسل الاهمية بين وسائل تكنولوجيا التعليم الحديثة، لما توافرت عليه من ميزات أمكن توظيفها في المجالات التعليمية والعلمية، وباتت تشكل احدى المصادر الرئيسة للمعرفة العلمية، على شاكلة معرفة رقمية.
وفي وقت استثمر فيه العالم تلك الميزات، ووفر البنى التحية والممارسات الوظيفية الصحية للاستخدام الرقمي السليم، بقيت المؤسسات التعليمية العراقية في منأى عن هذا الاستثمار حتى تفشي الجائحة، إلا في حالات محددة تطلبتها مهمات إدارية، أو متطلبات دراسية لتخصصات معينة ومحدود، واقتصرت في تعاملها مع الاستخدام الرقمي، بتدريس أسس ومبادئ الحاسوب التقليدية، التي أنتجت ما يمكن وصفه بالفجوة المعرفية الرقمية، الأمر الذي عاد بأثره في تجربة التعليم الإلكتروني، التي اعتمدها العراق لأول مرة بشكل أساس ومطلق، خلال العام الدراسي 2019/2020، في ظل ظروف كورونا.
قد تلاقي اطروحة الفجوة المعرفية الرقمية في العراق نقداً من أؤلئك الذين يقيّمون الجاهزية الرقمية على وفق المعايير الكمية فقط، من دون حساب الجوانب الكيفية منها، حين يجري الحديث عن توافر جيد للبنى التحتية المادية للأوعية الرقمية، من جوانب اعداد المختبرات وأجهزة الحاسوب والهواتف واللوائح الذكية، من دون النظر الى الجانب الكيفي، والمتمثل في مجالات توظيف تلك الأوعية، ومدى الفائدة الناتجة منها من الجانب المعرفي.
وعلى الرغم من بعض التباينات في مسألة تحديد ما المقصود بحدود “المعرفة” حين يتم وضعها شرطاً لقياس فاعلية هذا المحتوى، وهل تعني: تلك المعرفة ضمن سياقها الدارج بالمعرفة العلمية أو التخصصية حصراً، ام انها المعرفة بكل ما يدور حول العالم، من قصص ونتاجات ورؤى وخطابات وغيرها، وبذا فان كل ما يتم نشره في الوسائط الإلكترونية هي محتويات رقمية، ينبغي على صنّاعها الالتزام بمعايير ترميزها، فان عملية “صناعة المحتوى الرقمي في العراق” بها حاجة ضرورية للبحث في ادوات ومناهج العمل بها محلياً، وفي تحدّيات بيئتها الفنية والتقنية.
تتمثل المعرفة من وجهة نظر المختصين في “مجموعة من المعاني والمعتقدات والأحكام والمفاهيم والتصورات الفكرية، التي يكونها الانسان نتيجة لمحاولاته المتكررة لفهم الظواهر والأشياء المحيطة به، وهي لا تقتصر على ظواهر بعينها، بل تتناول كل ما يحيط بالإنسان ويتصل به، وبذا هي أوسع من العلم، حين تشمل معرفة علمية، وأخرى غير علمية”.
ويكون مسارها طبقاً لهم عبر البيانات، التي تمثل لهم حقائق موضوعية غير مترابطة، والمعلومات، أي البيانات التي يتم تصنيفها وتقويمها وتحليلها ووضعها في اطار واضح عام، والمعرفة، بوصفها بناء نظم ذهنية تحيط بالظاهرة أو الحدث، اذ تتضمن مستوى الفهم والاستيعاب وإعادة الصياغة، وإبراز العلاقات والدلالات الضمنية للمعلومات المتوافرة، فضلاً عن الحكمة، التي تكون اعلى مستوى للمعرفة، اذ تتحول المادة الفكرية الى توجيهات تمثل المرجعيات الاساسية للسلوك والأفكار.
لقد قابلت عملية صناعة المحتوى التعليمي الرقمي في الدول العربية، ومنها العراق مجموعة من التحديات التي كان ابرزها فيما يعرف بالفجوة الرقمية، ولا ترتبط تلك الفجوة بالجاهزية التقنية، من الأدوات والمتطلبات المادية، “فالتقنية كانت وستظل منتجاً اجتماعياً، وقد جاءت المعلومات والاتصالات بمنزلة تأكيد حاسم لهذا الرأي، وبقدر ما يحتاج تضييق الفجوة الى توفير الوسائل الفنية، بقدر ما يحتاج الى نوع من الابتكار الاجتماعي او ابتكار ما بعد التقنية، ان جاز القول، فتوفر المعلومات لا يعني بالضرورة توفر المعرفة، فالمشكلة كانت الماضي من قلة المعلومات، ولان باتت في الافراط المعلوماتي.
وفي العراق فان اشكالية الفجوة الرقمية تتعلق بالدرجة الاساس في الجانب الوظيفي لاستخدامات التقنية، الذي يشكل الى جانب عدد من الاشكاليات مؤشرات للاداء الرقمي المحلي ومنه الجامعات العراقية، ومنها مجالات الاستعمال الرقمي، وإتجاهات التعرض لمضامينه ودوافعه، التي مازالت تتجه نحو الجوانب الترفيهية، أو الإخبارية في حالات محدودة، ومقتصرة بظروف معينة ومنها الازمات، على حساب المعرفية منها.
لقد كان لغياب الوجود الفاعل لمؤسسات “التنشئة الرقمية، أثراً في تلك الفجوة، حين كان يمكن لها أن تعمل على تنمية المهارات الرقمية في العراق، وتمكين المستخدم من الإفادة إيجاباً من الوظائف المعرفية للإنترنت، واقتصار جهود المؤسسات التربوية والتعليمية على الجوانب التقنية البحتة في المناهج الدراسية والعلمية المختصة بالتقنيات الإلكترونية، لا الوظيفية منها، إلى جانبة عدم وجود تشريعات وآليات واضحة ومناهج ضامنة للتسوّق عن طريق الإنترنت في العراق، لطرفي العملية الشرائية “البائع والمشتري”، لاسيّما ما يرتبط منها بدفع المستحقات المالية، وإيصال المادة المشتراة إلكترونياً.
ومن المؤشرات في هذا الاتجاه ما يرتبط بعدم توافر المؤلفات العراقية الحديثة في المكتبة الورقية الرقمية، لعدد من الأسباب، ومنها: تراجع حركة النشر المكتبي في العراق بشكل عام، وعدم وجود دور أو هيئات مختصة للنشر الإلكتروني، أثر تراجع سوق الكتب المحلية، وإرتباط النشر الورقي بحقوق وإلتزامات، عاد بأثره بعدم القدرة على الإفادة من مضامين المنشور إلكترونياً، والإكتفاء بجوانب التسويق له عبر الوسائط الرقمية، من دون نشر مضامينه كاملة.
لقد كان للمؤشرات السابقة الدور الفاعل في عزوف المؤلف والناشر العراقي عن إصدار المؤلفات الإلكترونية المحلية، وتوظيف جهوده، المحدودة أساساً، للنشر الورقي، فضلاً عن عدم تشجيع المؤسسات الرسمية العراقية المعنية بحركة التأليف والنشر والترجمة، وعدم حماية مؤلفيها وناشريها ومترجميها جعلهم عرضة للإبتزاز من دور النشر العربية والأجنبية، وبما لم يعد بأثره الإيجابي على حث خطواتهم وحراك حماستهم نحو تطوير تلك الحركة ورقياً وإلكترونياً، التي تعاني الكثير من الإشكاليات أصلاً.
ويأتي الى جانب التحديات السابقة، ما يطلق عليه بالفجوة اللغوية، فاللغة تمارس دوراً في تأكيد دور المعرفة والثقافة في مجتمع المعلومات، فضلاً عن تنامي دور النظام اللغوي في مجالات التطوير والتحديث والذكاء الاصطناعي والابتكار والتقدم، في وقت تشير فيه الدراسات الى: “ان نسبة المحتوى العربي الرقمي بشكل عام، وليس التعليمي وحده، في المكتبات الرقمية العالمية يبلغ 8%”، وعلى الرغم من ذلك.. فان هناك اتجاهات تفسيرية عدة حول مركزية اللغة في مجتمع المعلومات وصناعة المحتويات التعليمية الرقمية، وبالتالي في تفسير مسألة الفجوة الرقمية والفجوة اللغوية ومصيرهما، تتمحور في مجالين الأول الاكثر تشاؤماً، والذي يعبر عن القلق على مصير اللغات نتيجة ما تقدمه ثورة المعلومات الشبكية من فرص الاندماج في لغة عالمية واحدة، والاغلب هي الانكليزية، على حساب اللغات الأخرى، في مقابل الآخر الاكثر تفاؤلاً، يجد ان تكنولوجيا المعلومات هي وسيلة لإحياء اللغات وحماية حتى لغات الاقليات، واداة للتواصل عبر المعرفة والثقافة والحفاظ على التراث والفنون والهوية بل تقدم المزيد من الفرص لازدهار اللغات.
لقد وفرت الشركات الدولية الفاعلة على شبكة الانترنت فرصاً كبيرة لتشجيع صناعة المحتويات التعليمية الرقمية العربية، ومنها (Google)، التي “فتحت المجال امام المستفيدين للمشاركة في اثراء المحتوى العربي على الانترنت عن طريق خدماتها التفاعلية المتعددة، التي تنوعت لتشمل العمل الموسوعي والخدمات الجغرافية والأعمال البحثية، والمواد الاخرى النصية والفديوية والرسوم والصور، وصار المجال مفتوحاً لإجراء العديد من الدراسات النوعية والكمية التي تعرف بسمات وخصائص المحتوى العربي المتاح، والشراكات التي تعمل كوكل على عقدها مع المؤسسات العربية في هذا الاطار.
ان المؤشرات السلبية ضمن نطاق صناعة المحتوى التعليمي الرقمي العربي لا تنفي وجود مؤشرات ايجابية له في المقابل، تنوه بإمكانية تطوير تلك الصناعة، ومنها: التزايد الكبير في اعداد المواقع الالكترونية العربية بشكل عام، والانخفاض الكبير في اجور الحصول على الانترنت في اغلب الدول العربية، وتوفر خدماته المجانية في مجالات متعددة، وظهور بوابات الكترونية عربية تسهم في نشر المعرفة تماثل البوابات الغربية، والتقدم الحاصل في منتديات الويب العربية، إلى جانب تزايد مواقع التجارة الالكترونية العربية.
وفي دراسة سابقة لنا اظهرت نتائج الميدان بان اعتماد تجربة التعليم الإلكتروني بشكل رئيس ومطلق، لأول مرة في العراق خلال العام الدراسي 2019/2020 قد وفّر تصوراً لطلبة الجامعات عن واقع الإمكانيات الرقمية لجامعتهم، وحقيقة مستوى المهارات الإلكترونية لأساتذتهم، وأشر ضرورة تأهيل تلك المهارات، وبالشكل الذي يعمل على تمكين التدريسي الجامعي من إعادة تشكيل صورته المعرفية لدى الطلبة، والتي صارت المهارات الإلكترونية أحدى مقومات قياسها، بعد تلك التجربة.
واوضحت النتائج وجود فجوة معرفية رقمية حقيقية في الجامعات، كشفت عنها تجربة التعليم الإلكتروني، تمحورت في الجاهزية الإلكترونية في التعاطي مع الأوعية الرقمية، ممثلّة بالمنصات التعليمية وباقي استخدامات التقنية من جانب، ومستوى المهارات الرقمية لأساتذتهم، بالمقارنة مع مستوى المهارات الرقمية للطلبة أنفسهم، مما كرس من مخاطر تلك الفجوة، التي تعاني في أساسها من خلل، بالقياس إلى جامعات أقليمية وعالمية.
لذا يمكن ان تكون تجربة “التعليم المدمج” التي بدأت الجامعات العراقية باعتمادها منذ عامين، الحل الأمثل لمعالجة اخطاء تجربة التعليم الإلكتروني التي بدأت لأول مرة بشكل مطلق في العراق قبل سنتين، في ظل استمرار الجائحة كورونا، فيما لو جرى تطوير تلك التجربة وتأهيل القدرات الرقمية لتدريسي الجامعات العراقية ومنتسبيها وطلبتها.