الدكتور صفد الشمري
رئيس مجلس المسار الرقمي العراقي
على وفق نتاجات “الضارة النافعة”، أودعت “الجائحة” تعليمنا المدرسي والجامعي، في ثلاثة مواسم إلكترونية غير اختيارية بالنسبة للعراقيين، دفعت بالمؤسسات والنظم والمهارات التعليمية إلى التعامل “الجبري” مع المعطيات والتقانانت الرقمية لأول مرة، وحققت تقدماً غير مسبوق في التعاطي المحلي مع الظاهرة الرقمية، التي هي في اساسها من ابرز مستلزمات ديمومة الحياة المعاصرة على مستوى العالم..!
بعد هذه التجربة التعليمية المثيرة، أعلنت وزارتا التربية، والتعليم العالي والبحث والعلمي، بان الموسم الدراسي 2022/2023 سيكون حضورياً بالكامل، في جميع المؤسسات المدرسية والجامعية العراقية، من دون التنويه إلى مستقبل التعليم الإلكتروني فيها، والذي قطع شوطاً حيوياً، عمل على تطوير بيئتنا الرقمية على مستويات الطلبة والتدريسيين، وحتى الأسرة التي كانت محركاً فاعلاً في تلك البيئة، بحكم تعاملها مع هذا النمط التعليمي الإلكتروني، في اثناء مواكبتها لتعليم ابنائها، وبشكل غير اختياري كذلك..!
هل سيكون في العودة إلى التعليم الحضوري انتكاسة إلكترونية عراقية أخرى، تحت وطأة العوز إلى التثقيف الرقمي الملزم، لمواكبة مستجدات العالم، بعد ان احكمت الاستخدامات الرقمية على جميع قطاعات الأعمال في العالم، ودشّنت كل المجالات الحيوية واليومية، وصارت احدى مؤشرات التحضر، في عصر ما يطلق عليه بالثورة الصناعية الرابعة، بعدّها ثورة رقمية تمزج بين التكنولوجيات المتعددة، وإعادة هيكلة الحدود بين المجالات المادية والرقمية.
تلك الثورة التي تنتج عنها مجموعة نماذج رقمية، تدفع الى النمو السريع، وفقاً لتقارير المنتدى الاقتصادي العالمي، تتمثل بالطاقة الرقمية، والنقل الرقمي، والصحة الرقمية، والاتصالات الرقمية، والانتاج الرقمي، الذي يحدث نقلة نوعية في الانتاج المركزي الضخم، والجمع بين الحوسبة الإلكترونية، والطباعة الثلاثية لإنشاء السلع، وغير ذلك من المظاهر في هذا الاتجاه؟
على الصعيد الدولي.. ينفّذ العالم استراتيجيات شاملة لتطوير للمهارات الرقمية، ويحرص على ان تتمتع شرائح المستخدمين بالمهارات التي تحتاجها لتكون أكثر قابلية للعمالة والإنتاجية والإبداع والنجاح، إلى جانب بقائها آمنة في التواصل مع استخدامات الإنترنت، وثمّة ضرورة حاسمة توجب تحديث استراتيجيات المهارات الرقمية بشكل منتظم ومستمر كي تستجيب لما ينشأ من تقانات جديدة، تؤثر في المجتمعات الرقمية.
وبذلك.. يتعيّن على البلدان تحديد الوسائط التي تعتزم بوساطتها تنفيذ استراتيجيات تطوير المهارات الرقمية، ولمّا كانت قنوات التعليم الرسمية، ممثلة بالجامعات والمدارس، تشمل الناس في مرحلة تكوينية هامة من حياتهم، فانها في وضع مثالي لغرس المهارات والمفاهيم، التي تفيد في التعرض المبكر للتكنولوجي الرقمية، وهو ما تؤكد عليه الدراسات الحديثة للتجاربة الرقمية.
وبموجب تلك الدراسات، تضطلع المدارس والجامعات بدور حيوي في تطوير المهارات الرقمية، ليس من خلال التعرض المبكر للحواسيب والبرامجيات والإنترنت فحسب، وإنما بغرس مهارات التفكير التي تجعل من من التدريسيين الطلاب متعلمين مدى الحياة، ويتسمون بالقابلية على التكيف، ناهيك عن الحاجة لمواكبة متطلبات التعليم الإلكتروني.
إذ تتوفر للطلبة اليوم المزيد من الفرص للوصول الى الأوعية الرقمية أكثر من أي وقت مضى، وتستفيد الشركات من ذلك عن طريق انشاء برامج تعليمية متطوّرة، تسهّل من عملية التعلّم، بمزاوجة البحث العلمي المعرفي، مع التحليل التنبئي المتطور والذكاء الاصطناعي، وهناك العديد من البرامج تقوم بتقديم مجموعة من الاختبارات القصيرة للمستخدمين من شريحة الطلبة على أجهزتهم الذكية، يتطلب منهم الاجابة عنها بشكل صحيح قبل الوصول الى المحتوى المطلوب، ويتم تحليل اجاباتهم ويتم تعديل صعوبة الأسئلة بناءً على قدراتهم.
كل ذلك يستدعي اخضاع المؤسسات الجامعية والتعليمية إلى استراتيجيات فاعلة لتطوير المهارات الرقمية للمعلمين والمتعلمين على حد سواء، على وفق متطلبات التقانات الرقمية المتسارعة بالتطور، وعليها ان تستجيب للحلول التي تواجه العوائق الفعلية لتنمية تلك المهارات في المؤسسات الجامعية، والتي تتمحور في النقص في تطوير المهارات، حين لا تكون جزءاً من التطوير المهني المستمر في أكثر المؤسسات الجامعية والتعليمية، ولا يكون التدريب من أجل حصول الاساتذة الجامعيين على المهارات ملزماً في أغلب الأحوال، فهم غير محضّرين بشكل منهجي للتعامل مع التقانات الرقمية.
إلى جانب العوائق المؤسساتية المنهجية، إذ مازالت أغلب المؤسسات الجامعية مغلقة امام التعلم الإلكتروني إلا في متطلبات وحدود ضيّقة، وكذلك الحال هو مع هيئات الاعتماد، بالنسبة للتعليم في العديد من المجتمعات، وفي مقدمتها العراق، ناهيك عن الحواجز بين المجموعات ذات العلاقة بالمجال التعليمي، حين لا تقوم الجهات المزودة بتقانات التعليم الرقمية بما يكفي لاستكشاف علم أصول التدريس، الذي يبرر استخدام التقانات الرقمية في التعليم.
ان الاستخدام الصحيح للتقانات الرقمية في التعليم يحتاج الى ان يجري التعامل معها وفق الخطوط الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، الأمر الذي يجعل العديد من العناصر المهمة فيها بحاجة إلى المراجعة والاستكشاف، ومنها ما يرتبط بالتغيير التكنولوجي مع التحول العام في المجتمعات الجديدة، من قبيل الدور المتزايد للقطاع الخاص، وزيادة الفردية والتركيز على المحاسبة التي تعتمد على البيانات.
ومع ولوج العراق بتجربة التعليم الإلكتروني امتدت لثلاثة أعوام دراسية بشكل رئيس ومباشر لأول مرة، تحت ضغط وظروف جائحة كورونا، تُظهر مؤشرات البحث والخوض الميداني أهمية إيلاء قضايا استمرار تنمية المهارات الرقمية للشرائح التدريسية المدرسية والجامعية فضلاً عن الطلبة أولوية استراتيجية وطنية، والإفادة من عوائد الإيجاب التي حققتها لنا المواسم الإلكترونية التي مضت، في مجال تنمية تلك المهارات، وان كان ذلك قد حصل بشكل غير اختياري..!