الدكتور صفد الشمري
رئيس مجلس المسار الرقمي العراقي
بدأت صناعة المحتويات الرقمية تمارس دوراً أساسياً في إعادة تشكيل الثقافة العامة للمواطنين على مستوى العالم, الأمر الذي عزز من فكرة تأكيد فاعليتها في إعادة بناء القيم المساندة للتطوير والتحديث في المجتمعات, من قبيل: قيم المساواة والقبول بالآخر, وكذلك الاختلاف معه, وأخذت تتصدى لوظيفة كبرى, غير تلك الوظائف التقليدية المعروفة للإعلام في الإخبار والإرشاد والتعليم والترفي، ومن هنّ في حكمهن.
إذ يقف المختصون على مسافة واحدة من الحقيقة التي تفيد بان تلك الصناعة الاحترافية تهم بوظيفة حضارية اليوم, لما تمارسه من اسهامات في ممارسات التطور الحضاري برمته، حين يكون من نتاجاتها إن تقف استخداماته وراء أغلب المتغيرات التي اتسم بها المجتمع السياسي المعاصر، وكان آخرها التحولات الديمقراطية التي اقتحمت المنطقة وما تبعها من مشاريع تندرج ضمن ممارسات الديمقراطية, ومن بينها الإصلاح, الذي يُروّج له على المستوى العربي بأجمله، كونه اشتمل على معظم الممارسات الديمقراطية التي تطرحها بقوة اليوم الأدبيات السياسية العالمية المعاصرة.
لقد جوبهت الطروحات النظرية المتعلقة بالممارسات الديمقراطية, التي أسس لمعظمها عند الغرب, بتحديات وانتقادات كبيرة في حال بدء الأخذ بها على ارض الواقع في مجتمعات غير تلك التي انطلقت منها, وفي رأسها مجتمعاتنا العربية ومنها العراق، لدوافع سياسية واجتماعية وحتى دينية..!
من حيث المبدأ.. يُنظر إلى التحوّل الديمقراطي من قبل المختصين بالنطاق السياسي على انه: “التحوّل إلى حالة سياسية ايجابية, تتجسد مقوماتها في التداول في التداول السلمي للسلطة من خلال الانتخابات ومراقبة سلوك الحكام والتعددية السياسية, وهي بمنزلة مرحلة الوسط بين نظامين, سلطوي وآخر ديمقراطي”.
وبذا يمكن أن يحدث التحوّل الديمقراطي في أي نظام سياسي, نتيجة إدراك القيادة السياسية فيه بأهمية إحداث الإصلاح, أو نتيجة التوصل إلى صيغة توافقية بين النخب السياسية والاجتماعية حول إجراء خطوات اصلاحية, وتنوّه الدراسات بإمكانية أن يحدث الإصلاح والتحول نتيجة تآكل النظام السلطوي نفسه, مما يحفز المجتمع للضغط من اجل إحداث هذا التحوّل، ومن هنا يمكنن القول بان الإصلاح السياسي يعني مرور النظام السياسي بعمليات تغيير واسعة, بحيث يكون التحوّل الديمقراطي احد أوجه الإصلاح الشامل.
لقد ناقشت مؤتمرات وندوات عربية متعددة مشكلة الإصلاح السياسي وبحثت في ماهيته وآلياته وترتيب أولوياته وتحديد المطلوب إصلاحه، ومن سيقوم به, وهل انه يبدأ من القمة أو من القاعدة, وهل الإصلاح السياسي يأتي أولا, أم يمكن لبقية أنماط الإصلاح أن تسبقه.. ودور موضوع البحث العلمي منه وكونه جزءً من المشكلة وجزءً من الحل في آن واحد, والحاجة إلى الاهتمام بالإنفاق على جانب البحث العلمي والأكاديمي.
واصت بان تعمل المؤسسات على أحياء النقاش على المستوى الإعلامي والرقمي, وفي جميع الوسائل المتاحة, مع التأكيد على إعادة النظر في ضرورة مراجعة النظم التعليمية والثقافية وإصلاح حقوق الإنسان وإضافة مادة حقوق الإنسان في المدارس والجامعات، وضرورة أن تقوم هذه المؤسسات والمنظمات الحقوقية بالدفاع عن حقوق المرأة في العمل العام وبضرورة أن يكون للمرأة دورها الفاعل في عملية الإصلاح والديمقراطية في هذه الدول.
والمطالبة بإنشاء شبكة رقمية تضامنية في العالم العربي تكون مهمتها ممارسة الضغوط على الحكومات من ضغوط إعلامية وقانونية وتظاهرات سلمية في حالة قيام أي حكومة باعتقالاتة في صفوف نشطاء سياسيين أو حقوقيين أو أصحاب رأي، والاهتمام بدور المجالس المحلية والشعبية ومؤسسات المجتمع المدني في قضية الإصلاح، فضلاً عن التوصية بالاهتمام والشروع بعمل دورات تدريبية لناشطي حقوق الإنسان في كيفية تفعيل دور المحكمة الجنائية الدولية وفهم آلية اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية.
لقد بدأت المنظومات الرقمية تشكل كياناً بذاته, يكون تنوعه استجابة لتنوع الواقع الموضوعي للمجتمع وتعدد الحاجات فيه, والأهداف والوظائف المطلوب تحقيقها في المجالات المختلفة, وفي الأوقات والأمكنة والأساليب المختلفة.. لذا، تكون مسالة حريات الإعلام والاستخدام الرقمي دعامة قوية من دعامات التحوّل والإصلاح, بل وقضيه مهمة من قضاياه, إذ انه يمكن أن يتعامل مع إحدى ابرز التحديات التي تواجه التغيير الاجتماعي, الناجم عن إجراء عمليات الإصلاح, وزيادة المشاركة الشعبية في الأنشطة العامة, والمتمثل بما يمكن أن يؤدي ذلك إلى زيادة حدة الصراعات الاجتماعية بسبب ضعف قيم المجتمع التقليدي, وتآكلها تحت وطأة زيادة معدلات التعلم والتحضر, وهو ما يؤدي إلى وجود قيم جديدة, تحل محلها.
وفي أثناء عملية التغيير, فان تغيير الولاء السياسي إلى الولاء الوطني مثلاً, لن يكون مهمة سهلة, إذ إن البنى السياسية التقليدية تظل مؤثرة في أنماط السلوك لمدة طويلة, كونها عميقة الجذور في المجتمع, وعندها يبرز دور الأوعية الرقمية بما تحتوي عليه من محتويات رصينة.
إن الدور المنتظر من الأوعية الرقمية في بناء القيم المساندة للتطوير التي تساعدنا
في تحقيق الإصلاح وصولا إلى تحول ديمقراطي واسع, يجب أن تمهد له خطوات فاعلة لرفع مختلف آثار وأشكال الهيمنة الحكومية عن وسائله, وضمان حريات ممارسة صنّاع المحتويات الرقمية لمهامهم دون تدخل السلطة, لما في ذلك من أهمية في دعم النظام الديمقراطي, والتجسيد الواضح لحرية التعبير, بوصفها الدعامة القوية للشفافية، عبر إصلاح التشريعات المرتبطة بحريات الرأي ودعم تنظيم الاستخدامات الرقمية, وفي حينها تكون مسؤولية إيجاد “حلول الوسط” في جميع الإشكاليات التي واجهت طروحات ومشاريع الإصلاح، وضع برامج واستراتيجيات إعلامية رقمية لتدريب صنّاع تلك المحتويات وتنظيم مهاراتهم، يكون للنخب الأكاديمية والإعلامية والسياسية والثقافية دوراً رائداً فيها.