أ.م.د. صفد الشمري
رئيس مجلس ادارة المسار الرقمي العراقي
شكّلت الأوعية الرقمية المتعددة فضاءً جديداً للحوار والنقاش وابداء الرأي على وفق ما يعرف بمناهج “ديمقراطية الإنترنت”، وصارت حتى المعارضة السياسية تمارس عن طريق تلك الأوعية، لما تحققه من آثار في المجتمعات على مستوى العالم، منذ بداية ظهور المدونات حتى عصر الوسائط الاجتماعية..!
لكن، وفي ظل غياب مناهج الاستخدام لمجالنا الافتراضي المحلي: هل تمكّن العراقيون من صيانة حريات التعبير في فضاءات الحوار الرقمية، من دون المساس بكرامة المواطن، ويسيء لصورة الوطن؟
مثل بقية المجتمعات.. انعكست تطورات الاستخدام الرقمي على الممارسات كلها، ومنها ما يرتبط بحريات الرأي والتعبير، الإ ان الفرق ينزل في تنظيم تلك المجتمعات لمجالاتها الافتراضية تقنياً وقانونياً وحتى اجتماعياً، فيما ظل المسار الرقمي العراقي ينتهج العشوائية سبيلاً لمواكبة مستجدات العالم، من دون موجه أو ناصح، تضبطه القواعد والأطر القانونية والتشريعية والمهارات الرقمية المتمكنة!
من حيث المبدأ، تقوم فضاءات الحوار الجماعي على منطق الديمقراطية في المشاركة، إلى حد ما، بالتواصل ما بين الجمهور، وتأخذ فضاءات الحوار الجماعي في الاوعية الرقمية عبر وسائط التواصل الاجتماعي وعدد من التطبيقات الرقمية شكل الدردشة أو الحوار، ويتمثل المبدأ العام الذي يميزها في أن أفراداً تجمعهم شواغل وهواجس مشتركة، يقررون الائتلاف ضمن مجموعة افتراضية، ليتحدثوا ويتناقشوا ويتبادلوا الآراء حول موضوع ما، فيشكلون بهذا المعنى جماعة يتواصل الأعضاء فيها أفقياً، إذ إن كل عضو هو في الوقت ذاته مرسل ومستقبل.
ولم يستفد المتلقي العراقي بشكل فاعل من تلك الفضاءات الالكترونية في مجال التوعية السياسية والديمقراطية، إذ تشير الإحصائيات الحديثة المتعلقة بدوافع استخدام الفرد للانترنت، إلى أن دافع الترفيه والتسلية جاء في المرتبة الأولى بنسبة 46%، فيما سجل دافع التماس المعلومات نسبة 26% فقط.
وتستثمر الوسائط الإعلامية الرقمية بشكل أكثر عمقاً الأبعاد التفاعلية للشبكة إذ خلقت بعض الصحف الإلكترونية فضاءً للبلوغ يتمكن عن طريقه القراء من المشاركة بالرأي والتعليق حول مسائل عديدة، ويعني هذا تغيراً في مفهوم الصحفية الالكترونية إلى فضاء هجين يتجاور فيه خطاب الصحافي مع خطاب المتلقي.
ولا يقتصر هذا النموذج الجديد على فضاء التواصل الالكتروني على الرغم من أن الخطاب الغارق بالتقانات الحديثة للمعلومات والاتصال قد أنتج رؤية تؤكد –دائماً- على طبعها الجذري التي تفصل بين إعلام جديد وآخر قديم.. يتميز الأول بحركة تجديد مستمرة تفرز نماذج غير مألوفة، في حين بقي الثاني ثابتاً بنماذجه التقليدية والجامدة.
ولا تعكس هذه الرؤية الواقع الحالي لعلاقة الأثر المتبادل بين وسائل الإعلام الرقمية ووسائل الإعلام التقليدية، فالصحافة الالكترونية مثلاً اعتمدت في بدايتها النماذج القديمة، أما وسائل الإعلام التقليدية، فهي تتغير أيضاً بإدماجها لتقنيات وممارسات جديدة مصدرها الإعلام الالكتروني والنماذج التواصلية التي تفرزها الشبكة وتمثل التفاعلية أهم المتغيرات الجديدة لوسائل الإعلام الكلاسيكية التي أعادت تشكيل العلاقة العمودية والأحادية وغير المتكافئة التي كانت تحدد علاقة المرسل والمتلقي.
إن قسماً من الدراسات التي أُجريت على الصحف الإلكترونية تشير إلى أن: التركيز على المضامين الإعلامية (السياسية، والاقتصادية، والعسكرية) على حساب المضامين الإعلامية (الرياضة، والفن، والحوادث، والتسلية)، وتغلب الطبيعة المحلية على المضامين الخبرية المعروضة على هذه المواقع، ويتراجع إلى حد كبير اهتمام مواقع هذه الصحف بمضامين التسلية والخدمات.
وعلى الرغم من إن المؤسسات الصحافية العربية بشكلر عام كانت قد بدأت مع أوائل الألفية الجديد في السعي لنشر المحتوى الإعلامي الخبري والإعلاني على شبكة الانترنت، وأخذت تستعين بالشركات المصممة لمواقع الويب على شبكة الانترنت وبدأت أيضاً في حجز مساحات لها على الشبكة.
إلا إن هناك من يرى أن الصحف المنشورة على شبكة الانترنت ضمن حدود المجال الإعلامي العربي، قد لا تتفوق على المطبوعات التقليدية في توزيعها وشعبيتها ووصولها إلى جمهور عريض من المتلقين في وقت قريب، حيث مازالت هناك عقبات كثيرة تقف في وجه الصحيفة الالكترونية، منها إن قراءة صحيفة على الاجهزة الذكية لا يعد أمراً معتاداً وفقاً لعادات التعرض لدى المتلقي العربي.
حتى وقت قريب، كانت المدونة الإلكترونية أحد أشكال المنظومة التفاعلية الالكترونية الأكثر أهمية، فهي عبارة عن موقع شخصي على شبكة الانترنت يتضمن آراء ومواقف حول مسائل متنوعة، ويُعد تطبيقاً من تطبيقات الانترنت، يعمل عن طريق نظام لإدارة المحتوى (المضامين)، وعبارة عن صفحة على الشبكة تظهر عليها تدوّينات (مدخلات – معلومات) مؤرخة ومرتبة ترتيباً زمنياً تصاعدياً، ينشر عدد منها يتحكم فيه مدير (ناشر) المدوّنة، ويتضمن النظام آلية لأرشفة المدخلات القديمة، تمكن القارئ من الرجوع إلى تدوّينة معينة في وقت لاحق، عندما تعود غير متاحة على الصفحة الرئيسة للمدوّنة.
ضمان حريات التعبير اليوم في العراق لا تعني بأي شكل من الأشكال عدم تنظيم فضاءات الحوار الجماعي عبر الأوعية، من وسائط تواصل اجتماعي أو تطبيقات رقمية أو تقانات تهتم بمثل هذا النمط من الحوار، عن طريق اعادة البنى التحتية الضامنة لمثل تلك الحريات، وفي مقدمتها ما يرتبط بالتشريعات، إلى جانب تنمية مهارات المستخدمين على توظيف هذا المجال الافتراضية في تعزيز مناهج الديمقراطية، على وفق الأطر الصحيحة.