الدكتور محـمد وليـد صالح
رئيس الملتقى العلمي للتربية الإعلامية الرقمية
المقال ضمن وقائع العدد الأول من مجلة “المسار الرقمي”
تعد التربية الإعلامية الرقمية عملية تنمية قدرات النشء الجديد والشباب الإعلامية والتوعية بالمحيط الرقمي ووسائله وغاياته الفكرية والعلمية والتفاعل معه، وترسيخ الممارسات الإيجابية السليمة في التعامل مع الأخبار والمعلومات الرقمية، وكذلك تطوير مهارات التحليل والتفكير الناقد لدى افراد المجتمع، وتمكينهم من أدوات تقييم المحتوى لمواجهة التضليل الإعلامي وفكّ التشفير وطرائق التعامل مع وسائل الإعلام، وتوعيتهم بمخاطر الفضاء الإلكتروني والوسائط الحديثة، بوساطة البحث عن التطورات الحاصلة من أجل مواكبتها وتطبيقها على الوجه الأكمل.
إذ ان التعرف على مصادر المحتوى الإعلامي وأهدافه سواء أكانت السياسية أم الاجتماعية أم التجارية أم الثقافية والسياق الذي يرد فيه، ويشمل على التحليل النقدي للمواد الإعلامية، وإنتاج هذه المواد وتفسير الرسائل الإعلامية والقيم التي تحتويها، على الرغم من تطبيق الميدان الإعلامي التربوي في بعض البلدان العربية لكنه لازال أفكاراً في بلد بحجم العراق ومؤسساته التربوية والتعليمية.
الأمية الرقمية ومهارات علم الاتصال
تنبثق أهمية التربية الإعلامية لتشجيع أفراد المجتمع على الاهتمام بتلقي الرسائل الإعلامية والتوقف عندها، بوساطة (تحليلها، وتحديد هدفها، ولمن هي موجّهة؟، ولماذا صيغت في إطار معيّن؟، وما الحقائق الموجودة أو المفقودة فيها؟، وما المصادر المحايدة التي يمكن التحقق منها؟) فضلاً عن عملية توظيف وسائل الاتصال بطريقة مثلى بهدف تحقيق أهداف تربوية مرسومة في إطار سياسة إعلامية/ تعليمية للدولة القائمة عليها، وهي بذلك تعمل على إعداد ممارس الإعلام بأداء العلمية التربوية، وإتقان مهارات العلم الإعلامي لكي تتسق مع قيم وأهداف المجتمع، المعلنة في سياسته المكتوبة، وتحقق المشاركة بينهم وبين التربويين.
وتعرّف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (UNESCO) التربية الإعلامية بأنها: (تطوير الكفايات الأساسية وتنميتها التي تتيح للمواطنين التعامل مع وسائل الإعلام على نحو فعّال، على وفق مهارات الفكر النقدي ومهارات التعلّم مدى الحياة، في سبيل تنشئة اجتماعية تجعل منهم مواطنين فاعلين للتعامل مع وسائل الإعلام ومواجهة الأمية الرقمية).
التربية الإعلامية الرقمية وتحديات المستقبل
وكشف التقرير العلمي الختامي الذي اصدرته جمعية العلاقات العامة العراقية/ ايبرا باللغتين العربية والإنجليزية عن فعاليات الملتقى العلمي العراقي للتربية الإعلامية الرقمية، الذي نظمته عبر الانترنت عام 2020، بمشاركة (38) جامعة عراقية حكومية وأهلية وأساتيذ الجامعات المختصين بالإعلام الرقمي، عن ماهي المستلزمات الواجب توافرها للبدء بتطبيق مشروع التربية الإعلامية الرقمية.
من طريق مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي، لفهم آليات التعامل مع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، من أجل تهيئة بيئة مناسبة لتعليم التربية الإعلامية في محاولة لإدماج مع تخصصات العلوم الاجتماعية والنفسية والتربوية، التي من شأنها تقديم تجربة متعددة الجوانب ومتكاملة، فضلاً عن ان التربية الإعلامية والتربية الرقمية كلاهما يهدفان إلى معالجة ظاهرة الإدمان الرقمي، وخاصة في ظل ما تظهره معطيات التمكين الرقمي والثقافة الرقمية وتنميتها لدى أفراد المجتمع، من طريق مهارات التحليل والتمكين والنقد الموضوعي الصحيح للرسائل الاتصالية.
إذ ان أهمية العنصر التكنولوجي في نظريات الاتصال الحديثة، التي اسهمت في توظيف التفاعلية بين المرسل والمتلقي مما رسخ مهارة التفكير الناقد والتحليل لكشف وتفكيك المعاني الدلالية للمحتوى الإعلامي واهدافه في خدمة تنمية المجتمع، وكذلك حملات التوعية من المعلمين ورجال الدين والمؤسسات الإعلامية والمنظمات غير الحكومية، ودور منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (UNESCO) في العمل ضمن مشروع تضمين مادة التربية الإعلامية الرقمية في المدارس الثانوية، وهذا يأتي من أجل تحديد كيفية التصرف ورسم السلوك اليومي للناشئة، من طريق تعرضهم لوسائل الإعلام التي اصبحت من المصادر الرئيسة للمعلومات والأخبار، وبالتالي مايتم عرضه من رسائل تنعكس ايجاباً وسلباً على وعي وتصرف وسلوك هؤلاء.
ان حماية المتلقي وتحصينه من التأثير السلبي للمحتوى الإعلامي، بوساطة اعتماد مفردات علمية دقيقة تهدف إلى التربية الإعلامية من جهة، ومن جهة اخرى عمل تقارب بين مختصي المعلوماتية والحاسوب وتقاناتها، فضلاً عن التربية الرقمية للتعامل مع الوسائط الحديثة في مجال صناعة الأخبار وانتاج البرامج التلفزيونية المرئية والمسموعة، وكذلك عمل توأمة بين المختصين في مجال الاتصال والإعلام الرقمي والمختصين في مجال هندسة تقانات المعلومات والذكاء الاصطناعي، لغرض ايجاد مراكز تحليل بيانات محتوى المقاطع المرئية ومواقع التواصل الاجتماعي.
مناشيء التربية الإعلامية الرقمية
وتأتي مناقشة طرائق التعامل مع وسائل الإعلام والوسائط الحديثة التي تبدأ من الأسرة والمدرسة والمجتمع، بوساطة تثقيف المدارس والمعلمين والمدربين لتجنب مخاطر الفضاء الالكتروني وتعزيز التفاعل الايجابي مع المحيط، من أجل التنسيق بين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ووزارة التربية لتشكيل لجنة من الإكاديميين المختصين بتدريس مادة التربية الإعلامية الرقمية، وأساتيذ أكاديميين وتربويين حول وضع منهاج علمي وتربوي للمادة يحقق أهداف تدريسها ومراجعته بصورة دورية.
فضلاً عن تحديد الأساليب التدريسية وتوافر المستلزمات والأدوات والوسائط الرقمية الضرورية كافة لتحقيق أهداف المقرر الدراسي، بعد تضمينه في منهاج الدراسة المتوسطة والثانوية، واعتماد كليات وأقسام الإعلام بالجامعات الحكومية والأهلية كافة على منهج موحد لتدريس مادة التربية الإعلامية الرقمية لطلابها، على ان يراعي هذا المنهج حضور الأساليب العلمية والتربوية والتدريبية المعاصرة في تدريس المادة، وفقاً لتجارب الدول التي سبقتنا في هذا المجال والإفادة من خبراتها المتراكمة بما يناسب توجهاتنا الوطنية والمجتمعية.
ومع التأكيد على ضرورة إقامة المؤتمرات العلمية وكتابة بحوث معاصرة حول مفاهيم التربية الإعلامية الرقمية، وأساليب تدريسها والمستلزمات المطلوبة لتقديمها إلى الطلبة بشكل متكامل وجذاب، لا سيما ومشاركتهم في المراحل المتوسطة والثانوية لإختيار المواد الإعلامية، بوساطة اجراء هذه البحوث الميدانية لمعرفة رغباتهم واهتمامهم بالمفردات المنهجية الإعلامية والاتصالية.
الإعلام الجديد وتقاناته المؤثرة
غاية في الاهمية أصبح تعليم مهارات التربية الإعلامية الرقمية للطلبة في الجامعات، وهل ان المؤسسات الإعلامية العاملة في العراق ساعية لنشر هذه الثقافة الجديدة، من طريق خطابها المرئي والمسموع، بوساطة وضع استراتيجية عمل يتم بموجبها التخطيط لاحتواء متخرجي كليات وأقسام الإعلام في الجامعات في اطار تضمين أو استحداث المناهج الدراسية في التعليم الثانوي، على وفق مفردات منهجية يضعها مختصون في الإعلام وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الحاسوب والمعلومات.
فالتوجه نحو تدريس (التربية الرقمية) في الجامعات بدلاً عن (التربية الإعلامية)، لخصوصية الأولى واتساعها في الأدوات والبنى والتقانات الرقمية، من ِشأنه شمول الجامعات العراقية كافة بتدريس مادة (التربية الإعلامية الرقمية) وعدم اقتصارها على كليات الإعلام، لإتساع تأُثير التربية الإعلامية الرقمية في أفراد المجتمع كافة، فضلاً عن تمكين التربية الإعلامية الرقمية من المزاوجة بين الثقافات المتعددة، والتحصين من مخاطر الفضاء الالكتروني، الأمر الذي يفتح قنوات التنسيق والتعاون المشترك مع المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني والإعلام، لتحقيق الأهداف المجتمعية في التربية الاعلامية الرقمية على وفق برامج منهجية مشتركة، للعمل على تضييق الهوّة الحاصلة بين المجتمع والتقانات الرقمية الحديثة وهو في مقدمة أهداف التربية الإعلامية الرقمية.
استحداث مادة التربية الإعلامية الرقمية ضمن المناهج الدراسية
لتضمين أو استحداث مادة التربية الإعلامية الرقمية ضمن المناهج الدراسية نحتاج لرؤى كفيلة، خاصة مع تفاعل جيل الشباب الناشئ مع التقانات الالكترونية وتنمية روح التعامل الايجابي معها، من طريق تضمين المناهج الدراسية لمادة الإعلام الرقمي على وفق طبيعة المادة الدراسية، وتطوير مهارات الطلبة في انتاج المحتوى الإعلامي الرقمي، وهذا يتطلب اصدار تشريعات وقرارات لتنظيم قواعد التعامل مع التقانات الرقمية الحديثة، إذ تحافظ على اخلاقيات وسلوك المجتمع بعيداً عن الظواهر السلبية مثل الجرائم الالكترونية والابتزاز والسرقات الرقمية والتحريف عبر المنصات الرقمية، من أجل تحقيق الأمن الفكري والثقافي في المجتمع.
والعمل على تحديد مفردات لتدريس مادة التربية الإعلامية تنسجم مع طبيعة كل مرحلة في التعليم الثانوي من جهة، وفي التعليم الجامعي من جهة أخرى وعدم الاعتماد على الاختيار الكيفي لهذه المفردات بحيث تصبح تجميع وتكرار غير مفيد، فضلاً عن مواجهة الصعوبات التي يواجهها التدريسي وتوافر مستلزمات النجاح من مختبرات وأجهزة حاسوب، وكذلك دور المنظمات غير الحكومية في هذا المجال للتوعية والتثقيف عبر الندوات والبرامج التدريبية.
ان وضع برنامج دراسات عليا خاص في مجال التربية الإعلامية الرقمية ووصفها بـ(مادة النقد الإعلامي) في اطار مهارات التفكير الناقد والتحليل للظواهر الإعلامية مقروءة كانت أم مرئية أم مسموعة، بهدف تمكين المجتمع والتنشئة الرقمية وتقليص حجم الفجوة المعرفية وزيادة مهارات القراءة الالكترونية ومعالجة الأمية الرقمية، بالاعتماد على البحوث الميدانية وتحليل معطياتها وبياناتها لعمل بنك معلومات.
واقامة ورشات تدريبية متقدمة لأساتيذ مادة التربية الإعلامية الرقمية في كليات وأقسام الإعلام، من أجل تنمية مهاراتهم ومواكبة المستجدات ومعالجة الصعوبات التي يواجهونها، فضلاً عن عقد مؤتمر دولي للمختصين بهذا الموضوع.
نوافذ المعالجة العملية
وبحسب التقرير العلمي لفعاليات الملتقى العلمي العراقي للتربية الإعلامية الرقمية أصدرته جمعية العلاقات العامة العراقية/ ايبرا ، الذي كشف عن تضمين مفردات مادة التربية الإعلامية الرقمية في المناهج الدراسية للمراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية، والاعتماد على متخرجي كليات وأقسام الإعلام في تدريس مادة التربية الإعلامية الرقمية، وفقاً لتخصصهم بهدف توصيل المفردات الدراسية في مجال صناعة المحتوى الإعلامي، والاهتمام في توافر البنى التحتية وتطويرها (التقانات والأجهزة والبرامج الرقمية) لمساعدت الطلبة ومواكبتهم للمستجدات الحديثة في مجال الاتصالات والمعلومات، وبناء قدراتهم ومهاراتهم الرقمية وتطويرها لأفراد المجتمع من طريق المنظمات غير الحكومية العاملة على المستويين الدولي والمحلي في مجال الإعلام الرقمي.
واقامت مؤتمر دولي مختص بالتربية الإعلامية الرقمية، يليه تأسيس أكاديمية عراقية أو معهد للتربية الإعلامية الرقمية، وهذا تسبقه البرامج التدريبية لمتخرجي كليات وأقسام الإعلام في المؤسسات الحكومية الإعلامية، مثل هيئة الإعلام والاتصالات، وشبكة الإعلام العراقي، ونقابة الصحافيين العراقيين، لتطوير مهاراتهم الكتابية والتعبيرية والتوجيهية وتمكينهم من صناعة محتوى إعلامي هادف ذو فائدة مجتمعية.
فضلاً عن الإفادة من تجارب الدول التي قطعت شوطاً متقدماً في مجال تطبيق التربية الإعلامية الرقمية، مثل المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة العربية السعودية ولبنان وهولندا واستراليا والولايات المتحدة الامريكية وغيرها، واعمام تجربة اعداديات الصناعة المهنية وأقسام تكنولوجيا الإعلام على المحافظات كافة.
والعمل على اجراء بحوث ميدانية مشتركة لمعرفة مستوى الأمية الرقمية في العراق، لغرض توافر معطيات وبيانات تساعد صانع القرار في مجال تعميم التجربة الرقمية في التربية الإعلامية، واعادة تقويم المناهج الدراسية ومفرداتها في المدارس وشمول الجامعات كافة، بتدريس مادة (التربية الإعلامية الرقمية) وعدم اقتصارها على كليات الإعلام لإتساع تأثيرها في نواحي المجتمع، وكذلك سياسة المراجعة الدورية للمناهج التربوية والتعليمة لتصحيح مسارها تماشياً مع التطورات العلمية الحديثة.