أ.م.د. صفد الشمري
رئيس مجلس ادارة المسار الرقمي العراقي
تمارس الأوعية الاتصالية الإلكترونية الدور البديل في تحقيق وظائف الإعلام والسينما والمسرح في المجتمعات اليوم، عبر محتويات رقمية فديوية وصوتية وصورية ونصية متعددة، ومنه ما يرتبط بأكبر شريحة في العراق، ممثلة بشريحة ذوي الاحتياجات الخاصة، والتي تقدر المنظمات الدولية أعدادهم بما نسبته 10% من مجموع سكان البلدان المستقرة، وتزيد معدلاتهم إلى 13% في المجتمعات التي تعاني من الحروب والكوراث المستمرة، ومنه ما يتعلق بالعراق، الذي تختلف الاحصائيات الرسمية والبرلمانية والفعاليات المجتمعية بتحديد أعدادهم ما بين ثلاثة إلى خمسة ملايين “معاق”، ألزمت المادة (32) من الدستور لسنة 2005 بحمايتهم في النص الذي يفيد بأن: “ترعى الدولة المعاقين وذي الاحتياجات الخاصة وتكفل تأهيلهم بغية دمجهم في المجتمع”..!
ان التصدي للعزل المرئي الذي عانى منه “المعاقون” لسنوات طويلة، في وسائل الاتصال التقليدية، ممثلة بالإعلام والسينما والدراما والمسرح، يمكن أن يبدأ بأكثر ادوات التواصل المعاصر حيوية وتأثيراً، ممثلة بالأوعية الرقمية المتعددة، التي يمكن لها في حال تنظيمها ان تُسهم في إعادة إدماج “المعاقين” بالمجتمع العراقي, بوصفهم من الأفراد الفاعلين والمنتجين فيه, والوقوف بالضد من تكريس صورة سلبية عنهم.
فهم الاحتياجات
تصنف الإعاقة إلى: حركية أو بدنية, كقطع الأطراف أو توقف وظائفها, والإعاقة الحسية المتعلقة بالتكلم والاستماع, والإعاقة الذهنية, وقد تؤثر الإعاقة في الحالة النفسية للفرد المعاق, وفي تطوره وتعلمه, وهناك من يرى إن الإعاقة ليست مرضا, بل تأخرا ملحوظا في النمو, يستدعي توفير مجالات وظروفا خاصة لتحقيق هذا النمو, ومن هنا يكون المعاق: كل من افتقد القدرات الحيوية للمعيشة المستقلة دون إسناد ومساعدة خارجية من أفراد آخرين.
ولان المنظومات الرقمية صارت تشكّل في كل مجتمع كياناً, يكون تنوعه استجابة لتنوع الواقع الموضوعي للمجتمع وتنوع حاجاته الرئيسة, والأهداف المطلوب تحقيقها في المجالات المختلفة, وفي الأوقات والأمكنة والأساليب المتعددة, تأتي الحاجة الماسة لتولي تلك المنظومات لأدوارها الفاعلة في التركيز على شريحة “المعاقين”, ممن تصل أعدادهم إلى 600 مليون شخص في العالم, تبلغ نسبتهم في الدول النامية فقط قرابة 80% وفقا للإحصائيات الدولية, فيما تختلف الاحصائيات التي تختص بتحديد اعدادهم في العراق ما بين ثلاثة الى خمسة ملايين “معاق”, تتطلب أوضاعهم، في كل الأحوال، رعاية واهتمام خاصين من قبل الأجهزة المعنية بهم، على الرغم من الالزام الصريح والواضح بتلك المهمة من قبل نصوص الدستور العراقي.
الواقع المظلم!
في معرض تقيمها للواقع الاتصالي المختص بشريحة “المعاقين” على المستوى العربي، وبالنظر لعدم وجود مقاييس دقيقة لتحديد مديات اهتمام المنصات الرقمية بتلك الشريحة العريضة بعد، نجد ان من المفيد تبيان مستوى الاهتمام التلفزيوني والإذاعي والدرامي العربي بها، والتي كرّست هي في الأساس عبر مضامينها طيلة السنوات الماضية، تشكيل الصورة السلبية عن “المعاقين” .
وهو يعكس مؤشرات عناية القطاعات المعنية بتلك الشريحة المقهورة بشكل عام, إذ أظهرت وثائق”تنظيم البث والاستقبال الإذاعي والتلفزيوني، عبر الفضاء في المنطقة العربية, التي صدرت عن اجتماعات وزراء الأعلام العرب، إن عدد الهيئات العربية التي تبث قنوات فضائية على شبكاتها قد بلغ 116 هيئة, منها 24 هيئة حكومية, و92 هيئة خاصة تمتلكها وتديرها رؤوس أموال عربية, كانت بواقع 79 قناة ذات البرمجة المتنوعة الجامعة, و202 قناة متخصصة في عدد من المجالات, الأمر الذي يظهر لنا التطور اللافت في الاهتمام بالإعلام العربي المتخصص من حيث المبدأ.
وقد بلغ عدد قنوات الأطفال 16 قناة, فيما حصر عدد القنوات الرياضية بـ26 قناة, والإخبارية بـ22 قناة, وكذلك 38 قناة للسينما و الدراما والمسلسلات, و41 قناة للموسيقى والمنوعات, و23 قناة تجارية واقتصادية وللتسوق, و14 قناة ثقافية وتعليمية, و12 قناة وثائقية, و6 قنوات دينية, و4 قنوات تفاعلية, فيما لم يسجل وجود أية قناة فضائية تعنى بذوي الاحتياجات الخاصة, ولم يعالج الإعلام العربي قضاياهم إلا في برامج أو تقارير محدودة، فكيف يكون الحال مع المجال الرقمي.
على الرغم من إن نسبة “المعاقين” في البلدان العربية بلغت نسبة تراوحت من بين 10% و13% من عدد سكانها, يمكننا القول: انه لم تناقش على نطاق واسع “ثقافة المعاق” بعد, وبقي التركيز على قضاياهم واحتياجاتهم سطحياً ومحدوداً, كما انه غالباً ما يتم تقديم صورة “المعاق” بشكل سلبي يعزز النظرة السائدة على انه “إنسان ذو عاهة”, في حين إن “الإعاقة” من بين أكثر الموضوعات الإنسانية حساسية, وهي تتطلب اهتماماً ورعاية اكبر بكثير مما أولته وسائل الإعلام التقليدية, فالأمر يتعلق بتحديد المفاهيم والتعرف على الخصوصيات, والرعاية والتأهيل وتنمية المواهب والملكات, وفك العزلة عن “المعاق” بتمكينه من دخول الحياة كشريك فاعل وقادر, وليس ككائن عاجز يثير الشفقة في أحسن الأحوال.
لقد مارست المضامين المرئية والمسموعة على مستوى العالم دوراً سلبياً بين شريحة “المعاقين”, ومعاكساً للمهام المفترض القيام بها إزاء تلك الشريحة الواسعة والمهمة, وقدمت “صورة ذهنية” سلبية عنها في مواضع الأمر الذي يظهر مخاوف تبني التلفزيون تلك “الصورة” السلبية عن “المعاقين”, وما يمكن أن تحمله من مخاطر مستقبلية على مستوى عدم القدرة في إعادة إدماج تلك الشريحة بالمجتمعات, وفي توجيه سلوكها بالشكل الصحيح.
في مقابل ذلك.. ينقل عن بحث أجراه معهد غربي متخصص في الدراسات المعلوماتية عن الصورة التي قدمها الإعلام التقليدي عن “المعاقين” لعامة المتلقين بأنهم: “أشخاص خطرون وأشرار وعدائيون وغاضبون ومنحرفون وشاذون وسيئون حتى على أنفسهم… وعاجزون وغير مهرة, ومثيرون للشفقة وعالة, ومهرجون ومضحكون”… مقابل حالات قليلة ظهروا على إنهم “معجزون وخارقون”.
ليس هذا فقط، إذ تظهر دراسات “صورة المعاق في الدراما العربية” بأن الأوعية الاتصالية لم تقدم –هي الأخرى- الصورة المرضية عن شريحة المعاقين في البلدان العربية, مؤكدة في معرض تناولها لتلك مشكلة بحثه على محورين: يتحدد الأول يتحمل الأوعية الاتصالية مسؤولية الصورة التي يحملها عامة الناس عن “المعاقين”, فكلما زادت المشاهد والتغطيات الايجابية والواقعية عنهم، كلما أسهم ذلك في تغيير الصورة النمطية عن هذه الشريحة لدى هؤلاء الناس، ويتمحور الجانب الآخر باعتقاد “لمعاقين” بان من حقهم الطبيعي أن يظهروا في مختلف المحتويات, مثلهم مثل غيرهم من شرائح المجتمع, وخاصة عندما تظهر التقارير الإخبارية عنهم في وسائل الإعلام وباقي الوسائط المتعددة, فيجب أن تتضمن مثل هذه التقارير أشخاصاً منهم يمثلون وجهات نظرهم, بشكل صحيح وسليم, ويظهر احتياجاتهم ومتطلبات إعادة إدماجهم في المجتمعات.
خريطة “فك العزل”!
قد يظهر ما طرحناه اثر الأوعية الاتصالية المتعددة المتعاظم في تشكيل “الصور الذهنية” وتوجيه السلوك, غير تلك التي كرستها المضامين الاعلامية التقليدية، والحاجة الملحة للقائمين على القائمين في الاتصال فيها لتبني خريطة “فك العزل المرئي”, التي يمكن ان تنهض بوظائف الاتصال في الإخبار والتعليم والإرشاد والتدريب والترفيه بين شريحة “المعاقين” وتحاول “نقض” الصورة السلبية المتكونة عنهم, وتراعي عدم الوقوع في الخطأ من خلال تكريس شعور “المعاق بالانعزال”!
باعتماد أساليب إعادة الثقة بذات “المعاق”, وتزيد من مجالات إعادة إدماجه بالمجتمعات, على وفق تخطيط يوافق الواقع الموضوعي للمجتمع العراقي الذي اجتمعت فيه عوامل متعددة نجم عنها زيادة كبيرة في إعداد هذه الشريحة المهمة، وهو ما يتطلب توظيف قدرات المنصات الرقمية التفاعلية، لمطالعة احتياجات شريحة “المعاقين” في العراق, ويمكن أن تبدأ من خلال تأسيس منصة رقمية من قبل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية, تستثمر مزايا المحتويات الرقمية التفاعلية لتحقيق أهداف إعادة إدماج تلك الشريحة في المجتمعات, والإفادة من خبراتهم ومهاراتهم المختلفة وتتصدى لبقية الأهداف, شرط أن لا تكون تلك المنصة نوعاً إضافياً من العزل الاتصالي للمعاقين, وتقف بالتالي بالضد من فكرة إعادة الإدماج!
اننا نوصي بـإنتباهة رقمية فورية وكبيرة لشريحة ذوي الاحتياجات الخاصة, بان تكون المضامين التي تحملها منصتنا المقترحة شاملا “لجمهور المعاقين”, وغيرهم من مرافقيهم والمتعاملين معهم وعامة المتلقين, مع الأخذ بالاعتبار الواقع الصحي والنفسي لهم, وعدم التجريح بهم بشكل غير متعمد أو مقصود, وتقدمه على انه إنسان فاعل في مجتمعه, لا كونه “عالة اجتماعية”, وان “إعاقته” لن تقف حائلاً أمام دوره كفرد منتج في المجتمع, وندعو القائمين بالاتصال في إعلامنا التقليدي المحلي إلى التعرض لقضية احتياجات ودور “المعاقين” بشكل ممنهج في خططهم البرامجية الاعتيادية، وإيقاف بث ما يمكن أن يسيء لتلك الشريحة بالسخرية أو التجريح بهم أو يسهم في تكريس الصورة السلبية عنهم.