الدكتور صفد الشمري
رئيس مجلس ادارة
المسار الرقمي العراقي
يقتضي تنظيم المضامين الاعلامية في المحتويات الرقمية معايير جديدة، تراعي التغيرات الحاصلة في البيئة الاعلامية الرقمية، عن نظيرتها الواقعة في البيئة التقليدية، ومن هنا نقترح بان تكون المعايير التي تنظم العمل الاعلامي الرقمي في العراق تحتكم على جوانب وطنية ترتبط بسيادة الدولة عبر المجال الرقمي، وأخرى فنية ومهنية ذات علاقة بالمهارات والأدوات الرقمية بذاتها، ومعايير قانونية وأخلاقية، يهيء لها التشريع المواكب للمستجدات الرقمية، والمعايير الدينية والتعددية الراعية الى متطلبات التحول الديمقراطي في البلاد، الى جانب معايير الخصوصية الرقمية ذات العلاقة بالقيم المجتمعية والخصوصية الرقمية.
رقمنة الإعلام
يتمثل الإعلام الرقمي بشكل ميسير، بحيز إلكتروني على شبكة الإنترنت “موقع أو حساب أو قناة”، أو تطبيق رقمي متخصص، قد يرتبط بوسيلة اعلامية تقليدية، يحتوي على مضامين إعلامية نصية أو فيديوية أو صورية أو صوتية، تعود ملكيته لشخص أو مجموعة أشخاص أو مؤسسة أو شركة أو منظمة، وتكون خدماته الإعلامية متاحة للمستخدمين عبر الأوعية الرقمية، بشكل مجاني أو لقاء أجور معينة، ويعمل فيها شخص أو مجموعة أشخاص يحملون العناوين الوظيفية الصحفية، داخل العراق أو خارجه.
ويقتضي هذا الحيز الإلكتروني اعتماد على مجموعة من المعايير التي يجري قياس فاعليته بمدى الأخذ بها من عدمه في صناعة المحتويات على مستوى العالم، ومنها معايير المحتوى، اي القصد منه، وشموليته وحداثة معلوماته، واعتماده للموضوعية والدقة، وسلامة لغته واحترام قواعدها، والمعايير التقنية المرتبطة بسهولة الوصول الى الموقع والتجول فيه، وسرعة تحميل محتوياته، وتوافقه مع محركات البحث المختلفة، وتوافر المعلومات الاحصائية، وموثوقية الجهة الحاضنة له.
وهناك معايير الاخراج الفني المتمثلة بنيته، ومعلوماته، ومظهره، وخريطته والتاكد من صلاحية عمل روابطه، إلى جانب المعايير الأخلاقية، المرتبطة باتباع قوانين الملكية الفكرية، واحترام حقوق الانسان، وشروط الخصوصية وسياسات النشر، إذ تمثل التحديات المتعلقة بتطبيق تلك المعايير مجتمعة مجموعة من المعوقات التي قللت من فرص تطوير صناعة المحتوى الرقمي العربي بشكل عام.
المعايير العراقية
يعتمد التنظيم الإعلامي في العراق منذ العام 2003 على معايير عامة للبرامج المرئية والمسموعة ملزمة، تعمل بموجبها هيئة الإعلام والاتصالات، ترتبط بمنع التحريض على العنف والكراهية، “إذ تلتزم محطات البث والإرسال باحترام التنوع الإثني والثقافي والديني في العراق، ويمتنع أصحاب محطات البث والإرسال عن بث أية مادة تنطوي بمضمونها أو نبرتها على التهديد الواضح بالتحريض على العنف أو الكراهية الإثنية أو الدينية، وعلى الإخلال بالنظام المدني، أو إثارة الشغب بين مواطني العراق، أو الدعوة إلى الإرهاب أو الجريمة أو ممارسة نشاطات إجرامية”.
فضلاً عن “تهديد النظام الديمقراطي والسلم الأهلي والعملية الإنتخابية مع إبداء أقصى درجات الحرص في حال البرامج التي تبث وجهات نظر أشخاص أو منظمات يستخدمون الإرهاب أو يدعون إليه، أو يستخدمون العنف أو غيره من النشاطات الإجرامية في العراق”، وتشمل معايير ضبط التحريض على العنف والكراهية التهديد الواضح بإلحاق أذى عام، مثل “القتل أو الإصابة أو الإضرار بالممتلكات أو غير ذلك من أشكال العنف، وتعطيل قوات الشرطة أو الخدمات الطبية، وغيرها من أجهزة النظام العام، عن ممارسة واجباتها الإعتيادية”.
ويتم اعتماد شروط اللياقة والآداب العامة، كمعايير ملزمة لعمل الاعلاك العراقي، يلتزم بموجبها “أصحاب محطات البث بالمعايير العامة للياقة والآداب العامة، في مضمون برامجهم وأوقات بثها، مع الحرص بصفة خاصة على إحترام المشاعر الدينية والقومية، وحماية الأطفال والقاصرين بعدم بث المواد غير المناسبة لهم، بما فيها المواد الموجهة إلى البالغين، أو التي تتضمن مشاهد عنف وإرهاب أو مواد إباحية مخلة بالآداب، في الأوقات التي يتوقع خلالها أن تكون أعداد كبيرة نسبياً من الأطفال في عداد المشاهدين أو المستمعين”.
وتلزم المعايير “أصحاب محطات البث أن يبدو القدر المطلوب من المراعاة لدى نقل الردود المؤثرة الناجمة عن كوارث طبيعية أو حوادث وأعمال عنف وإرهاب، كما على أصحاب محطات البث أن يوازنوا الرغبة في خدمة الحقيقة ازاء خطر الإثارة، بما يسبب الضيق أو إمكانية التطفل غير المبرر على الحياة الخاصة للمواطنيين”.
ويجري عد النزاهة والحياد في مضمون البرامج من تلك المعايير التي توجب على أصحاب محطات البث أن يضمنوا القدر اللازم من الدقة والنزاهة في كل ما يبثونه من برامج، بما في ذلك الأخبار، وينبغي تمييز الرأي تمييزاً واضحاً عن الوقائع، وينبغي أن يكون نقل الأخبار متجرداً، وأن تكون الأحكام الإخبارية قائمة على الحاجة إلى إعطاء المشاهدين والمستمعين وصفاً متوازناً للأحداث، وتراعي الحساسية في بث الصور أو المقابلات مع ذوي ضحايا أو ناجين أو شهود على حوادث مروعة، ولا يكون المحررون والمراسلون ملزمين بالكشف عن سرية مصادر معلوماتهم ومن حقهم حمايتها في كل الأوقات.
ويشمل ذلك البرامج الدينية، حين تنص المعايير على وجوب “بذل الجهود بما يضمن للبرامج التي تتناول الدين أو المجموعات الدينية أن تكون دقيقة وومنصفة، وعدم تصوير معتقدات الجماعات الدينية وشعائرها تصويراً مشوهاً، كما يجب الإمتناع عن الإنتقاص من المعتقدات الدينية للآخري”، وكذلك حرمة البيوت الحياة الخاصة للمواطنين، فيتوجب على أصحاب محطات البث أن “يبدوا أقصى درجات الحرص والمراعاة في الأمور التي تتعلق بالحياة الخاصة بالأفراد وكرامتهم، واضعين نصب أعينهم أن الحق في الخصوصية والكرامة الشخصية لا يمكن تجاوزه، الإ في حالة المصلحة العامة المشروعة، وفي الحالات التي لها صلة بالأطفال على أصحاب المحطات أن يثبتوا وجود مصلحة عامة إستثنائية تعلو على مصلحة الطفل العليا في الأحوال الإعتيادية”.
معايير التحول
يستدعي اثر التحول الرقمي في الاعلام توافر معايير جديدة، غير تلك التي يؤخذ بها مع الوسائل الاعلامية التقليدية، وعلى وفق ذلك ينبغي ان تراعي المعايير الوطنية المقترحة من قبلنا لتنظيم الاعلام الرقمي العراقي كل ما يرتبط باحترام السيادة الوطنية، وعدم بث المحتويات الرقمية التي تسيء الى مكانة العراق في المحافل الدولية والاقليمية، أو تهدد علاقاته الدبلوماسية مع دول العالم والمنظمات الدولية، ومساندة أجهزة الدولة في مواجهة الإرهاب والتطّرف بأشكاله كلها، ولا تجوز بموجبها الإساءة إلى الجيش العراقي وباقي الأجهزة العسكرية والأمنية، لاسيما في أوقات الحروب ومواجهة الأزمات والحالات الطارئة التي تشكّل تحدياً لسيادة الدولة وهيبتها.
والتأكيد على وحدة الصف الوطني العراقي، وعدم بث أو نقل كل ما من شأنه التحريض وإثارة النعرات والقلاقل والفتن، أو يعرض السلم الأهلي إلى المخاطر، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مع التشديد على الالتزام بعدم الاساءة إلى صورة العراق في الخارج بأي شكل من الأشكال، بوساطة انتاج محتويات إعلامية رقمية، أو نقل محتويات انتجتها وسائط رقمية أخرى، تتحقق فيها مثل تلك الإساءة، ولا يتقاطع ذلك بالتأكيد مع ضرورات الاسهام في تحسين واقع الخدمات الحكومية التي تقدمها مؤسسات الدولة إلى المواطنين في القطاعات المختلفة، ضمن أُطر الشفافية ودور الإعلام في الرقابة على الأداء الحكومي.
مهارات وحقوق الرقمنة
نعتقد بان المعايير الفنية والمهنية الضابطة لحراك المسار الرقمي العراقي في المجال الاعلامي تقتضتي تأهيل المهارات الإعلامية للعاملين فيها بشكل مستمر، وبما يمكّنهم من مواكبة مستجدات التحوّل الرقمي في مجال الإعلام والصحافة، واعتماد المعايير المهنية للأداء الإعلامي التي أقرتها المؤسسات والنقابات والجمعيات الرسمية المعنية بتنظيم العمل الصحفي في العراق، وبما يُسهم في تحقيق أهداف الإعلام في بناء المجتمع وتنميته.
وهو ما يستدعي ضمان حقوق العاملين في المؤسسة بآليات عمل واضحة أو تعاقدات أصولية، تؤّمن لهم مستقبلهم الوظيفي وتحميهم من أي إجراء قسري محتمل خارج عن الأعراف والمواثيق الصحفية والمهنية، وعدم استخدام المناهج غير المهنية في التنافس الصحفي مع المؤسسات النظيرة في المجتمع، مع التحري المستمر عن صدقية وموضوعية المصادر الإخبارية التي تعتمدها المؤسسة في بناء قصصها وتنشرها للجمهور، وتوفير متطلبات احترام الرأي الآخر وتبني الحيادية والنزاهة في المعالجات الإعلامية.
ان البناء السليم للبيئة الاعلامية الرقمية في العراق يتطلب العمل بالمعايير القانونية والاخلاقية القادرة على استيعاب ظروف التحولات المتسارعة في تلك البيئة، ومنها ان يكون هناك آليات جديدة لترخيص هذا الاعلام، وبما لا يتقاطع مع مبادئ الحريات الصحفية، بان يلتزم صاحب الترخيص بالتشريعات واللوائح القانونية النافذة التي تنظّم حريات الرأي والتعبير وتضمن حق النقد في العراق وتعالج جريمتي القذف والسب، على ان يتحمل صاحب الترخيص مسؤولية نشر أو نقل أي محتوى رقمي يعمل على الترويج للجرائم الإلكترونية في المجتمع العراقي، ومنها الابتزاز الإلكتروني والاختراق الإلكتروني أو الاتجار بالبشر أو بالأعضاء البشرية أو المخدرات، أو الدعوة إلى التجنيد في المنظمات الإرهابية.
وان تعمل الوسيلة الاعلامية الرقمية على حماية القيم الاخلاقية السائدة في المجتمع العراقي، وعدم الإساءة إليها عن طريق نشر أو نقل محتويات رقمية تحرّض على الفسق والفجور والممارسات غير الأخلاقية أو تسيء للآداب العامة وتنشر السلوكيات الشاذة، مع التشديد على ضرورة توفير أكبر قدر من آليات حماية حقوق الملكية الفكرية للمحتويات الرقمية، سواءً تلك التي تنتجها المؤسسة أو تنقلها من مصادر رقمية أو تقليدية أخرى، بوصفها من المصنّفات التي تستدعي وجود بيئة راعية وحامية لها، بالنظر لسهولة انتهاكها مع تطور الاستخدامات الرقمية، وهو ما يستدعي بالتأكيد تأمين متطلبات حفظ الخصوصية الشخصية واحترام المكانة الاجتماعية والاعتبارية لكل مواطن عراقي، ضمن حدود التشريعات القانونية النافذة.
التعددية وحماية الأسرة
مع ولوج العراق بمرحلة التحول الديمقراطي، فان تنظيم المسار الرقمي العراقي يتطلب توافر معايير تتعلق بالجوانب الدينية والتعددية، والتي نجد بان من اهمها ضمان عدم الإساءة إلى صورة الإسلام وباقي الأديان التي حددها الدستور العراقي، في حال نشر القصص أو المعالجات أو التغطيات الإعلامية الرقمية التي ترفض ممارسات المجموعات الضالة والتكفيرية، التي تتحدث زوراً باسم الأديان السماوية، واحترام القيم والرموز الدينية في العراق، وعدم الإساءة إليها بأي شكل من الأشكال، وتحت أي مبرر كان.
الى جانب حماية مبادئ التعددية السياسية والممارسات الديمقراطية في العراق ضمن نطاق احكام الدستور وتشريعاته، ومراعاة عدم تعارض المحتويات الإعلامية الرقمية التي تتناول قضايا التعددية الثقافية في العراق مع القيم السائدة في المجتمع المحلي، واحترام منهج التعددية والقبول بالآخر ضمانة لوحدة الصف الوطني، وعدم نشر أو نقل أي محتوى رقمي من شأنه رفض تلك التعددية، أو التحريض بالضد أي من مكوناتها، أو معتقداتها أو قيمها أو مزاراتها أو مراقدها أو مؤسساتها أو غير ذلك.
وبفعل توافر عنصر الاتاحة غير المحددة في المسار الرقمي العراقي، نقترح بان يجري تنظيم الاعلام الرقمي بمعايير مجتمعية وأسرية، تضمن الالتزام بالمعايير الاجتماعية التي تنظّم حراك المجتمع العراقي وتحكم العلاقات السوية بين أفراده، وعدم الإساءة إليها بالمطلق، وعدم بث أو نقل أي محتوى رقمي يمكن ان يحط من دور الأسرة العراقية أو يحرض على تهديد تماسكها، أو يقلل من أهميتها في تربية أفرادها تحت أي مبرر أو مدعى كان.
وعدم الحط من مكانة الثقافات أو التقاليد أو العادات أو الطقوس أو الموروثات الشعبية لفئات المجتمع العراقي كافة، مع أهمية التحلي بروح المسؤولية الاجتماعية في صناعة القصص وإجراء المعالجات أو التغطيات التي تهتم بقضايا خلافية عامة ومهمة للمواطنين، والتركيز على موضوعات وقضايا التنمية المجتمعية والأسرية في نشر المحتويات الإعلامية الرقمية.
منشور في جريدة الصباح العراقية (العدد 5297 في 23 كانون الأول 2022).