الدكتور صفد الشمري
رئيس مجلس ادارة المسار الرقمي العراقي
ما بين الهويتين الافتراضية والمنتحلة، يقف الكثير من المعنيين في مجالنا الرقمي غير قادرين على التمييز بين الاثنتين، فيجدوهما حالة واحدة، تنوّه بان أية هوية افتراضية لأية شخصية هي “منتحلة” وتلك مصيبة، وبذا باتت النظرة القاصرة عندهم تفيد بان نتاج الهويات الافتراضية ممارسات سلبية غير مقبولة تستهدف بقية المشتركين في فضاء التواصل الرقمي، في وقت تكون فيه الهوية الافتراضية الحالة الاكثر “واقعية” ربما حتى من الهوية الشخصية الحقيقية في احيان معينة، بعصر تسود فيه الممارسات الرقمية وتشيع فيه الافتراضية، على اختلاف انماطها ومستوياتها وفعالياتها..!
يزيد من أهمية الدور الذي يمكن أن يؤديه الاستخدام الرقمي في المجتمعات المختلفة، الاعتقاد بانه بدأت يسهم في تشكيل القيّم والعادات السلوكية، وبالرغم من ان تشكيل الصورة الذهنية يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها الفرد، وطبيعة العلاقات الشخصية والأسرية والاجتماعية والسلوكيات السائدة في المجتمع، إلا ان دور هذا الاستخدام في تكوين الأنساق المعرفية والفكرية للمستخدم العادي أخذ بالتزايد على حساب دور المؤسسات التكوينية والتربوية التقليدية، من قبيل البيت والأسرة والمدرسة وغير ذلك، وصار من الوسائل الأكثر فاعلية في مجال الإسهام في تشكيل تلك الصورة، بعد ان أصبح من العوامل الرئيسة للتكوين المعرفي والفكري لدى الجمهور، وربما أكثرها أهمية.
من عوائد تلك الأوعية.. ان تكون هناك هوية بديلة عن تلك الهوية الشخصية لأي فرد يعرفها الناس عنه في مجتمعه، ممثلة بالهوية الافتراضية، التي يختارها بنفسه للتعبير عن ذاته في الفضاء الرقمي المفتوح، على قدر مختلف من التطابق والتضاد، وعلى وفق متطلبات الاستخدام الرقمي المستمر أو المؤقت، ومن هنا ينبغي التمييز بين الهوية الافتراضية، بوصفها العنصر الاساس في عملية التواصل الرقمي، وبين الهوية الرقمية المنتحلة التي يراد منها ابتزاز الآخرين أو ايهامهم باشياء غير حقيقية لدوافع متعددة..!
وتمثّل الهوية الافتراضية واجهة المستخدم في المجال الرقمي، سواءً أكانت في غرف الدردشة الإلكترونية أو ألعاب الفيديو أو أية مساحة افتراضية مشتركة كانت، ومنها حساباتنا عبر وسائط التواصل الاجتماعي، إذ يتم إنشاء الانواع مختلفة من الهويات الافتراضية بوصفها من مستلزمات التواصل الرقمي، وقد تكون تلك مستمرة يشكّلها بنفسه، تمثل شخصية الفرد التي يقدمها عبر فضاءات هذا التواصل.
أو قد تكون مؤقتة مثل تلك التي يختارها المستخدم في ممارسة رقمية معينة، ومنها ألعاب الفديو التي تستوجب ان يختار شخصية تمثله في فضاء اللعبة وفرتها له اعداداتها يختارها بنفسه بين عشرات الشخصيات، والتي تمثل كل واحدة منها هوية افتراضية بذاتها لها صفاتها ومميزاتها، وعندما تصبح العوالم والمنصات الافتراضية أكثر فاعلية وحيوية، فإن الهويات الافتراضية تصبح هي الأخرى نماذج أكثر مهيمنة للتعبير عن الذات وأدوات عملية للتواصل الرقمي الافتراضي.
وفي دراسة خصائص وابعاد الهوية الافتراضية، يجد الباحثون: “ان الهوية الافتراضية تنوه بعدد من “الصفات والرمـوز والبيانات التي يستخدمها الأفراد في تقديم أنفسهم للآخرين في المجتمعات الافتراضية ويتفاعلون معهم من خلالها”، إذ ظهر نوع جديد من الجماعات والمجتمعات الإنسانية والتـي اصطلح علـى تسـميتها بالمجتمعات الافتراضية، تتشابه إلى حد ما مع المجتمعات الواقعيـة في وجود الأفراد والتفاعل بينهم وتقاسمهم الروابط والمشاعر والزمان إلا أنـه فـي المجتمعات الافتراضية يغيب عنصر المكان، فالمكان لم تعد له أهمية، وقلصت العالم إلى نقطة تقاطع هي الزمن الحقيقي”، ومن هنا يكون الفهم للهوية الافترضية مهماً للغاية، حين أمست أكثر اللقاءات والتفاعلات تدور المجال الرقمي من خلال المساحات الافتراضية..
ما يهمنا في نقاش التمييز بين الهويتين الافتراضية والمنتحلة، التأكيد على ان الأولى هي تلك التي يقدم بها المستخدم نفسه في فضاءات التواصل الرقمي، ويتحدث عبرها لبقية المشاركين في هذا الفضاء، وتكون بالتالي ممثله له في المجتمع الافتراضي، وقد تمسي متطابقة نوعاً ما مع هويته الفردية الشخصية (الواقعية)، حين يقدم نفسه باسمه الفعلي وصورته الحقيقية وبكل ما يرتبط بشخصيته الحقيقية من وظائف ومؤهلات، إلا انها تبقى افتراضية مادامت تؤدي وظائفها في المجال الرقمي الافتراضي، حتى وان كانت أقرب إلى واقعه الفعلي، لاسيما ان أغلب المشاركين معه في هذا المجال لا يعرفونه بشخصيته الفعلية، بل عن طريق حساباتها في وسائط التواصل الاجتماعي.
قد يختار المستخدم هويته الافتراضية التي لا تتطابق مع شخصيته الفردية، لاسيما مع شريحة النساء، ويقدم نفسه بهوية وصورة وأسم ليست لها علاقة بهويته الحقيقية، لأسباب متعددة، ومنها ما يرتبط بالعادات والتقاليد الاجتماعية، فتكون الهوية الافتراضية هنا غير مرتبطة بالهوية الفردية، وهنا لا تكون الهوية الافتراضية منتحلة، لطالما انها لم تستغل هوية فردية معينة للتعبير عن الهوية الافتراضية، ولم تمارس أي انتحال على المشاركين في الفضاء الرقمي أو تعمل على ايهامهم بأشياء غير حقيقية او تستغلهم أو تعمل على ابتزازهم أو تؤدي أي فعل غير مصرح به بموجب الأعراف والقانونين، وهنا يتوجب علينا فهم الفرق ما بين الهويتين..!