الدكتور مظهر محمد صالح
هالني ما لمسته في تلك البلاد العملاقة التي تُعرف بمملكة قلب العالم، أو كما يسميها أهلها: مملكة الوسط.. إنها الصين بلد يضرب بجذوره في الأيديولوجيا الشيوعية، لكنه اليوم يعتلي قمة التقدم التكنولوجي برأسمالية مصقولة بلون أحمر!
في هذا البلد، تبدأ رحلة المدفوعات الرقمية من أبسط التفاصيل: من تأجير ذاتي للدراجات الهوائية المصطفّة كخلايا نحل صفراء، تهدئها شمس بكين فوق أرصفة العاصمة، اذ تجلس تلك الدراجات بانتظام حضري بديع، وترفرف خلفها رايات الصين الحمراء على أبنية شاهقة تُجسد سيادة الدولة، وتُحاكي السوق بنكهة القهوة بالحليب، انه نظام مزيج من الاشتراكية والرأسمالية بقوة رقمية لا تُرى إلا في بلاد كهذه بالغالب.. فحتى البقالة هنا، تلك الوحدة التجارية البسيطة التي تُعرض فيها فواكه لا نعرف نصفها لوناً أو طعماً، نحن أبناء حوض المتوسط، أصبحت جزءاً من المنظومة الرقمية.
فعلى الرصيف المقابل لإقامتنا، كشك تصدره مربع ورقي صغير الشكل مطليّ بالأبيض والأسود، يحمل رمزًا غريبًا أدركت لاحقًا أنه QR – اختصارًا لـ “الاستجابة السريعة”. لتشتري الفاكهة، ثم تخرج هاتفك المحمول، تمرره على الرمز، وإذا بثمن الفاكهة ينتقل من محفظتك الرقمية إلى حساب البائع في غمضة عين.
دهشت من هذا التقدم الرقمي، لا في الأبراج ولا في الموانئ ولا في المصانع، بل في بقالة الطريق ، دهشةٌ جعلتني أحدث مساءً أستاذاً عراقياً يعمل في جامعة بكين منذ عقود حول انطباعاتي عن القوة الرقمية في بلاد التنين ، قال لي ضاحكًا: “هذه البلاد ستشاهد فيها العجب، وروى لي أن مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني، الذي يحضره اكثر من الفي مندوب يمثلون ما يزيد على 96 مليون عضو في الحزب، لا يمكن أن يُخترق رغم تشابه الوجوه. فالتكنولوجيا هنا تمسك بزمام الدخول والخروج، اذ تتطابق الوجوه مع قاعدة بيانات مركزية، وتكشف أي “وجه أصفر ملون غير أحمر” قد يندسّ بين الحاضرين.
تلك هي الصين، التي أصبحت تراقب أي مطلوب عن طريق صورته المخزّنة رقميًا لدى أقرب وحدة للشرطة. فلا حاجة بعد اليوم لتحريات مضنية، فالكاميرات في الشوارع، في الباصات، في المحلات، كلها تشارك في “اصطياد الوجه المطلوب” بدقة لا تخطئها العين ولا الخوارزمية.
عدت إلى الفندق، وإذا بالحياة الرقمية تهيمن عليه أيضًا: من الدخول إلى المصعد، إلى دفع الفاتورة، إلى شحن القهوة من آلة أوتوماتيكية. كأنك تعيش داخل منظومة تكنولوجية تُدار تحت عنوان “اقتصاد السوق الرقمي الأحمر” The Digital Red Market Economy ، لا شرق ولا غرب، بل عالم خاص تحكمه خوارزميات ذات راية شيوعية.
لكن ما صدمني فعلاً… لم يكن في كل هذا بل في ذلك “المتسول التقدمي”، رجل متوسط العمر، يحمل على وجهه ملامح تاريخ الثورة الثقافية، وعيناه تنضحان بقراءات قديمة من الكتاب الأحمر.
كان يجلس بهدوء في زاوية الشارع المؤدي إلى مبنى بيروقراطي، حيث كنا على موعد رسمي هناك . وكانما ذلك الرجل جاء من عصر آخر، ربما من زمن الرئيس ماوتسي تونغ، لكنه هبط فجأة في قلب الصين الرقمية!
تساءلت في داخلي: هل تسمح الصين بالتسول؟
أجابني مرافقي، الموظف الحكومي الصيني بانضباطه المعروف: نعم، فالتسول ليس ممنوعاص قانوناً، لكنه ليس مباحاً بإطلاق، الدولة تراقبه وتحاصره إذا أصبح استغلالياً أو هدد النظام القانوني إنها لا تُجرّم الفقر، لكنها تنظم وجوده في الفضاء العام.
اقتربت من الرجل بدافع إنساني، أردت أن أضع بضع “يوانات” في يده، وإذا به يرفع لافتة بيضاء مربعة صغيرة عليها رمزQR، يطلب مني الدفع رقمياً.
ضحكت… ثم حزنت.
تذكرت متسولي شرق المتوسط ، حيث يغيب النظام ويغيب التنظيم وتغيب الكرامة أحياناً، لاسيما عندما يكون التسول فعل فوضوي. أما هنا، فهو فعل رقمي… منضبط… يشبه بقية مفردات الحياة الصينية.
فرغم الصورة الصارمة التي قد ترتسم عن الصين، فإنها لا تُحرّم التسول، لكنها تجعله “خاضعًا للضبط والتنظيم”، لا تسجن الفقير، لكنها لا تسمح له أن يُفسد النظام الحضري العام.
وهكذا، فإن التسول الرقمي تحت راية السوق الحمراء لا يُعدُّ نشاراً، بل جزءً من سيمفونية الانضباط الصيني.
إنها الصين… حيث يتسول الناس باستخدام (QR).